الثورات الشعبية والانقلابات العسكرية التى قد يطلق عليها ثورة حين يلتف حولها الشعب تنتهى بأن يتولى الثوار زمام الأمور بطريقة أو أخرى، وهو ما لم يحدث فى مصر. ثورة 25 يناير هى ثورة شعبية حقيقية انتفض فيها ملايين من المصريين العزَّل واستطاعوا أن يقهروا واحداً من أكبر وأعتى النظم الأمنية فى العصر الحديث والذى يزيد تعداده على مليون نسمة وعنده جهاز رهيب اسمه أمن الدولة يتجسس ويتسلط ويقهر ويسجن كل الشعب، وقد كان ذلك بتضحيات كبيرة استشهد فيها عدد ضخم، غير معروف بدقة، ولكنه ما يقرب من الألف شهيد، وأصيب ما يزيد على خمسة آلاف مواطن بإصابات خطيرة معظمها فى العيون، صحيح أن وقود هذه الثورة والذين خططوا لها كانوا مجموعات مختلفة من الشباب إلا أن الشعب كله اشترك فيها، وصحيح أن ثورة الشعب قد قضت على حكم مبارك وعائلته وانتصرت على أجهزته الأمنية والدعائية وكشفت عن كم رهيب من الفساد لم يتخيله أحد، واستطاعت أن تتغلب إلى حد ما على الفوضى المقصودة بانسحاب الشرطة وخروج عدد كبير من المسجلين خطر من السجون، وبدأت الحياة تعود إلى طبيعتها بالتدريج مع وجود الجيش فى الشارع، ولكن نهاية المرحلة الأولى أسفرت عن أن وقود الثورة الحقيقى من الشباب لم يتولّ بعد نجاح الثورة أى سلطة ليحدث التغيير المطلوب كما حدث فى ثورات شرق أوروبا عند انهيار الاتحاد السوفيتى، وكما حدث فى أمريكا الجنوبية عندما انتصرت الثورات الشعبية وأقامت ديمقراطيات حديثة على أنقاض نظم دكتاتورية وفاشية، والسبب الرئيسى فى ذلك هو غياب أحزاب أو تنظيمات سياسية اشتركت فى صنع الثورة، فالأحزاب المصرية الرسمية- باستثناء حزب الجبهة الديمقراطية الناشئ- قد رفضت الاشتراك فى الثورة يوم 25 يناير وأعلن رئيساً حزبى الوفد والتجمع العريقين شجبهما لاشتراك الشباب فى المظاهرات، وكلاهما حاول اللحاق بالركب بعد انتصار الثورة، ولكن ذلك لم يفلح، وأدى ذلك إلى ازدياد ضعف أكبر حزب ليبرالى وأكبر حزب يسارى، وكلاهما أصبح وجوده فى الشارع وتأثيره السياسى شبه معدوم، وهذان الحزبان سوف ينقرضان فى المرحلة القادمة بعد تكوين أحزاب جديدة ما لم تحدث ثورة فيهما يتولى بعدها الشباب القيادة. أما الإخوان المسلمون فقد شارك شبابهم من أصحاب الفكر الجديد بقوة مع شباب الثوار وساهمت بعض قياداتهم ضمن الجمعية الوطنية للتغيير التى كان لها دور كبير فى قيادة الثورة ولكن هذا الائتلاف بالرغم من المجهود الكبير الذى قام به والنجاح الذى حققه كان هشاً، وذلك للتباين الشديد بين أفكار أعضائه من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. وقد كانت إحدى كوارث مبارك الكبرى هى تحويل أقباط مصر من مواطنين يشاركون فى الحياة السياسية إلى شعب قبطى منفصل يعمل داخل الكنيسة فى نشاطات كنسية دينية، وأصبح البابا هو القائد الدينى والسياسى أيضاً، وأصبح مصير الأقباط فى أى تحرك يتفاوض عليه مبارك والبابا، والأقباط خارج المعادلة. وقد أعلن البابا رفضه خروج الشباب فى مظاهرات 25 يناير، ولكن لأول مرة فى التاريخ القبطى الحديث تخرج مجموعة كبيرة من الشباب مخالفة لتعليمات البابا وتشارك فى الأحداث وبعد أيام زادت مشاركة الأقباط وسقط منهم شهداء وانصهروا داخل بوتقة كل المصريين وهم الآن يصارعون للحاق بالركب والاشتراك فى نظام سياسى لكل المصريين. أما الشباب الذى خطط للثورة فقد كانت هناك صعوبات كبيرة فى توحيده تحت قيادة كاريزمية واحدة، ولذا عندما نزل الجيش بأمر مبارك ورفض أن يضرب الشعب المصرى وتم التنازل عن السلطة من مبارك له، لم يجد قوة سياسية منظمة للتفاوض معها على قيادة مصر باستثناء الإخوان المسلمين، فلا توجد أحزاب قوية ولا أثر لنقابات عمالية أو مهنية تعبر عن الشعب، بعد أن سحقها نظام مبارك تماماً، ووجد الجيش نفسه يحكم مصر ويتفاوض مع مجموعات من الشباب ومجموعات أخرى من الشيوخ الذين شاركوا فى الثورة ومجموعة الأحزاب المنقرضة وبعض رجال النظام السابق فى الصحافة والإعلام، وأصبح الجيش يحكم والشعب يشارك بالضغط عن طريق ميدان التحرير ونجح فى تحقيق عدة مطالب آخرها إقالة وزارة شفيق. الجيش الآن يحكم مصر لفترة مؤقتة، وأعلن أنه سوف يسلم الحكم إلى نظام ديمقراطى، وعند نشر هذه المقالة سوف تكون نتيجة الاستفتاء على وشك الظهور، بينما معظم شباب وشيوخ الثورة الذين كان من المفروض أن يكونوا فى مركز القيادة لم يسمح لهم حتى الآن بتشكيل حزب سياسى حقيقى يجمع الكل مثل حزب الوفد الذى تكون بعد ثورة 1919، وكان حزباً يجمع جميع الأطياف، فهو كان حزباً ليبرالياً ولكن كان به جناح يسارى يضغط فى سبيل العدالة الاجتماعية ويؤيد نقابات العمال، وجناح يمينى ليبرالى يدعو لحرية الاقتصاد، وقد جمع هذا الحزب بين المسلمين والمسيحيين فى بوتقة واحدة. لقد آن الأوان ليتحد كل من قاموا بالثورة وبسرعة ويتناسوا أى خلافات أيديولوجية أو شخصية لأن هذه لحظة فارقة، وتكوين هذا الحزب الذى يجب أن يجمع ممثلى عائلات الصعيد ووجه بحرى سوف يكون أمل مصر فى الخلاص من الدكتاتورية والتعصب. يبدو أن المصرى لابد أن يقوم مرة أخرى ليحمى إنجازات الثورة. قم يا مصرى.. مصر دايماً بتناديك. المصرى اليوم