هذه المقالة ليست فيلم حسن ومرقص، ولا إفطاراً رمضانياً فى الكاتدرائية، ولا أغنية تدعو للوحدة الوطنية. ذلك أننى لست مجبراً على كتابتها، ولا يدفعنى إليها سوى إيمانى بأن الحياة قصيرة جداً، أقصر بكثير من أن تتسع لبغض غير مبرر واحتقان طائفى لا لزوم له. بينما كنت فى المقعد الأمامى من التاكسى، أشارت فتاتان تقفان على ناصية الدرب المؤدى إلى الكاتدرائية، ففهمت على الفور أنهما مسيحيتان. كانت إحداهما نحيلة القوام بريئة الملامح فى حال اندهاش دائم، والأخرى ممتلئة القوام، ثرثارة يغلب عليها المرح. ركبتا فى المقعد الخلفى، وراح التاكسى يقطع شوارع المدينة المنهكة، والوجوه الحزينة تتراءى خلف الزجاج المُضبب بالأنفاس، بينما يصلنى حديث الفتاتين الهامس المفعم بالمرح. سمعتها تحكى لصديقتها عن مفارقة مضحكة حدثت لها مع (أبوها) فى الكنيسة، مفارقة ذكرتها بمقطع من فيلم اللمبى راحت تحكيه لصديقتها. وغرقت أنا فى خواطرى الخاصة، عبثاً ما أحاول أن أقنع نفسى بأنها أخرى: اللغة نفس اللغة، اللهجة واحدة. ملامحها ملامحى. نكاتنا واحدة، وتفاصيل الحياة اليومية التى تصنع الحياة واحدة. المحتوى الثقافى والاجتماعى واللغوى متماثل، فكيف اعتبرها أخرى؟ وشعرت بالرثاء لذلك التمزق النفسى الذى يعانيه المسيحيون فى مصر، من جانب هناك أسباب للكراهية يؤججها المتطرفون من الجانبين، ومن جانب آخر لهم نفس نسيج المسلمين الاجتماعى وظروفهم المعيشية والتفاصيل الحميمة. ومهما شعروا بالحنق عليهم فلابد لهم من مطرب يسمعونه، ونجم سينمائى يشاهدونه، وفريق كرة يشجعونه، لأنهم بشر قبل أن يكونوا مسيحيين!. وهنا تكمن المفارقة: معظم هؤلاء - بحكم الأغلبية العددية - مسلمون. تفتت فى الذات، وانقسام فى الشعور، جزء يعشقك، وجزء يكرهك. جزء يريدك وجزء لا يريدك. كانت السيارة توشك أن تصل إلى غايتها، والسؤال مازال يُلح على عقلى: «هل هذا الانقسام حتمى من طبائع الأشياء، أم أنه مفتعل وغير حقيقى؟». تجربتى الخاصة تؤكد أن الوئام ممكن جداً. والدليل أن صديقى الحميم مسيحى (وهو الفنان التشكيلى المُبدع د. رائف وصفى). أذكر أنه يوماً زارنى فى المستشفى. وتصادف أن كان المريض مسيحياً أجنبياً، والمريض الذى يليه مسلماً أجنبياً. كنت أفحص المريض وقد لاحظت على وجهه ملامح التأمل. وتوقعت ما سيقوله قبل أن ينطق به. فور خروج المريض قال لى: «المريض الأول مسيحى أجنبى، فمن أقرب لى: أنت أم هو؟، بالتأكيد أنت. والمريض الثانى كان مسلماً أجنبياً، فمن أقرب لك: أنا أم هو؟. بالتأكيد أنا. تفسير ذلك سهل جداً: إنه الوطن الذى جمعنا، أنت تفهم النكتة التى أقولها، هو لن يفهم. أنت تعلم الأغنية التى أحبها، هو لا يعلم. نتحدث لغة واحدة، وبيننا ذكريات كثيرة مشتركة. ذهبنا إلى السينما معاً، استقبلنا شبابنا معاً، أكلنا فى المطاعم معا، فكيف يكون آخر أقرب إليك منى؟». غداً يستكمل صديقى رائف أوراق المحبة. المصرى اليوم