نتناول هنا قضية في منتهي الخطورة تمثل ملحة وطنية حيوية يتوقف عليها أن تكون مصر أولا تكون، ولذلك سيكون حديثنا مباشرا وصريحا نأمل أن نصل به إلي عقول وقلوب الرموز والوطنيين المصريين الشرفاء.وقايا لحقنا في الحياة من الانفلات التنظيمي واستغلال رجال الأعمال للازمة لصالح مشروعاتهم ، بمنطق ''جاب الديب من ديله ولابد هنا أن نبدأ بضبط المصطلحات التي استخدمت في تغطية رحلتين الي كامبالا وأديس أبابا تحت عنوان الدبلوماسية الشعبية ، وهوتعبير يمكن وصفه لغويا بالاستعارة كما تعلمنا في كتب البلاغة ذلك أنه ليس هناك الا دبلوماسية واحدة نشأت عبر تطبيقات وتقاليد وقواعد وقوانين دولية وداخلية مستقرة وعريقة. وأغلب الظن أن هذا الاصطلاح قد استخدم لوصف الوفود البرلمانية التي كانت الأنظمة السابقة تبعث بها للدول الأجنبية لغير ما هدف أومهمة بعينها،كان يختلط فيها الحابل بالنابل ولم تخل من أعضاء لا يتقنون أي لغة أجنبية. اننا نقدر كثيرا الوفود البرلمانية والمهنية والفرق المسرحية والغنائية وغيرها من منظمات المجتمع المدني الرسمية وما تستطيع أن تقدمه من عوامل التعارف والصداقة بين الشعوب ، أما أن يتخطي الأمر ذلك للقيام بدور سياسي مغلوط في مسألة وطنية حيوية دون أدني تنسيق مع الدولة وجهازها الدبلوماسي ليسفر عن نتائج كارثية فهذا ما لايقبله أحد لأن اللعب في هذه المساحة محكوم بقواعد وحدود صارمة وفق خطط موضوعة . وأن يصاحب ذلك حملة اعلامية ترسم احلاما وردية للشعب لا أساس لها من الصحة. اقول ذلك وأنا أقدر كل التقدير والاحترام لعدد من الرموز الوطنية النبيلة التي ساهمت في هاتين الرحلتين ولا اشك في أنهم شاركوا بحسن نية ومن واقع شعورهم وانتمائهم الوطني. لا يختلف اثنان علي أن هناك خطورة شديدة في المرحلة الراهنة علي حصة مصر من مياه النيل بعد ان استمر تدفقها دهرا طويلة منذ بداية الخليقة ، ورغم أن حق مصر في هذه المياه ثابت وقوي وواضح ليس فقط بموجب اتفاقيات توزيع المياه فضلا عن انبثاقها من معطيات الأساس الأول الذي وضعه آباء افريقيا بزعامة ناصر ونكروما وهيلاسيلاسي عند ارساء أسس الأخوة والوحدة الافريقية وانشاء منظمة الوحدة الافريقية وهي الاعتراف بالحدود والأوضاع التي ارساها الاستعمار وعدم المنازعة فيها ضمانا لقيام السلم والتعاون بين جميع دول القارة. ولا يستطيع أحد أن ينكر فضل مصر ومساعدتها لنضال الشعوب الافريقية من اجل الاستقلال وامداد القاهرة الثوار الافارقة بكل انواع المعونات وفتح مكاتب لحركات التحرير الافريقية بالقاهرة. وبعد استقرار هذه الروح الاخوية الإفريقية بين دولها لعدة عقود راحت أيدي اجنبية تعمل حثيثا بكل الوسائل تحت ستار من المزاعم وفي اطار من السرية وتستخدم الرشوة وتغذي الفساد في مراكز صنع القرار الافريقية من اجل ضرب العلاقات المصرية مع عدد من الدول الافريقية وخاصة دول منابع نهر النيل . غير أن الأمور أخذت اتجاها خطيراًِ خطورة انفلات المهرجانات الشعبية والبزنسة علي حصة مصر من مياه النيل ولعل أفضل ما نبين به خطورة القضية هوان نعرض علي الفور ذلك التناقض الواضح الذي ابرزته صحيفة مصرية واحدة في يوم واحد في الوقت الي تحدثت فيه الصحف المصرية عن استقبال حافل لما سمي بوفد الدبلوماسية الشعبية في كامبالا واديس ابابا وعن اشادة الرئيسين الاوغندي والاثيوبي بالثورة المصرية ، في ذات اليوم وذات العدد نشرت جريدة الأهرام فيي 2مايو2011 ام مصر ما زالت تنتظر المعلومات الفنية لتحديد موقفها من سد الالفية ونفي مصدر رسمي حكومي ان تكون مصر قد وافقت علي بناء سد الالفية وقال المصدر ان ما اعلن عنه وفد الدبلوماسية الشعبية المصري في اثيوبيا عن الموافقة علي انشاء السد لا تلتزم به الحكومة المصرية واكد المصدر ان مصر لن توافق علي بناء السد لمجرد وصول رسائل شفوية لمسئولين حكوميين اثيوبيين بانه لا ضرر علي مصر من بناء السدمؤكدا ان مصر قلقلة وتريد الاطلاع بشكل رسمي علي المعلومات والرسومات الحقيقية للسد. ..ولكي نلقي لمحة موجزة علي أصول المشكلة وتفاقمها خلال سنوات قليلة ماضية ، نكتفي بالاشارة إلي بعض اتجهات دول المنبع ولهجتها الاستعلائية المتسلطة في تناول المسألة. كذلك أعلنت أثيوبيا رفضها لاتفاقية 1929 واتفاقية 1959 في جميع عهودها السياسية منذ حكم الإمبراطور ثم النظام الماركسي "منجستو" وحتي النظام الحالي، بل وسعت عام 1981 لاستصلاح 227 ألف فدان في حوض النيل الأزرق بدعوي "عدم وجود اتفاقيات بينها وبين الدول النيلية الأخري"، كما قامت بالفعل عام 1984 بتنفيذ مشروع سد "فيشا" - أحد روافد النيل الأزرق- بتمويل من بنك التنمية الأفريقي، وهومشروع يؤثر علي حصة مصر من مياه النيل بحوالي 0.5 مليار متر مكعب، وتدرس ثلاثة مشروعات أخري يفترض أنها سوف تؤثر علي مصر بمقدار 7 مليارات متر مكعب سنويا. وبتحريض من قوي معادية لمصر تتزعمها اسرائيل وتتخفي وراءها امريكا وبعض الدول الغربية كما تشارك فيها شركات صينية وايطالية بدأت دول المنبع الأفريقية - التي تنبع مياه النيل من أراضيها وتصب في مصر والسودان - تطالب منذ عام 2004 بحقها في إقامة مشاريع سدود وجسور علي مسار النيل بحجة توليد الكهرباء والزراعة الدائمة بدل الزراعة الموسمية، وتطالب بتوقيع اتفاق جديد بخلاف اتفاق 1929 بدعوي أن من وقع الاتفاق هو بريطانيا التي كانت تحتل أوغندا واثيوبيا وباقي دول منابع النيل، وظهر أن وراء هذه التحركات الأفريقية أصابع امريكية وصهيونية للضغط علي كل من مصر والسودان . بل أنه عندما سعت مصر والسودان لزيادة حصتها من مياه النيل بحفر قناة جونجلي السودانية التي كانت ستوفر قرابة 15 مليار متر مكعب من مياه النيل تضيع حاليا في أحراش ومستنقعات جنوب السودان، تحركت تل ابيب بمساعدة موسيفيني رئيس أوغندا ودعمت حركة التمرد الجنوبية (الجيش الشعبي لتحرير السودان الذي وقع اتفاق سلام مع الخرطوم عام 2005 )، وأفشلت هذا المشروع بعدما هاجم المتمردون المهندسين المصريين والسودانيين وأحرقوا حفار المشروع . كل ذلك رغم قيام مصر بمشروعات هامة في دول المنبع لترشيد وزيادة كميات المياه بها نكتفي هنا بالاشارة علي سبيل المثال الي المشروع المصري الأوغندي لمقاومة الحشائش المائية وفقا لاتفاقية ثنائية وقعت في 22 مارس 1999 ليتم علي ثلاثة مراحل انتهت المرحلة الاولي عام 2007 بميزانية قدرها 13.9 مليون دولار والمرحلة الثانية من عام 2007 حتي مايو2010 بميزانية 4.5 مليون دولار وهي تطوير 25 قرية بتدعيم جسور شواطئها بالدبش وانشاء 20 سدا لحصار ميا الامطار والمرحلة الثالثة في مايو2010 لمدة 18 شهرا بميزانية 2 مليون ولار لبناء 10 سدود وانشاء 5 مزارع سمكية. وقد ظهرت الأصابع الصهيونية والأمريكية في تحريض الدول الأفريقية من خلال عروض قدمتها شركات صهيونية وأمريكية لتمويل مشاريع المياه الأفريقية التي تعارضها مصر لأنها ستنقص من حصتها المائية، وأثبت هذا وزير الموارد المائية المصري السابق الدكتور محمود أبوزيد في تصريح له حول أزمة المياه في الوطن العربي ألقاه أمام لجنة الشئون العربية - فحذر من تزايد النفوذ الامريكي و(الاسرائيلي) في منطقة حوض النيل من خلال "السيطرة علي اقتصاديات دول الحوض وتقديم مساعدات فنية ومالية ضخمة " بحسب تعبيره !. والجديد في هذا التدخل الصهيوني الأمريكي هوطرح فكرة "تدويل المياه" أوتدويل مياه الأنهار من خلال هيئة مشتركة من مختلف الدول المتشاطئة في نهر ما والهدف منه هوالوقيعة بين مصر ودول حوض النيل، وقد ألمح وزير الموارد المائية المصري السابق محمود ابوزيد في فبراير 2009 عن وجود مخطط (اسرائيلي) - أمريكي للضغط علي مصر لإمداد تل ابيب بالمياه بالحديث عن قضية "تدويل الأنهار"، وأكد أن (إسرائيل) لن تحصل علي قطرة واحدة من مياه النيل . وكانت مبادرة دول حوض النيل قد انطلقت في عام 1999 لبحث كيفية بناء توافق افريقي حول توزيع مياه نهر النيل بين دول المنبع والمصب ال10، في ظل مطالبات دول في شرق إفريقيا وخاصة أوغندا وكينيا بضرورة إلغاء معاهدة وقعتها بريطانيا نيابة عن مصر معاهدة عام 1929 ووقعت مصر بعدها اتفاقية عام 1959 مع دول الحوض، والتي تضمّنت بند الأمن المائي، الذي يقضي بعدم السماح بإقامة مشروعات علي حوض النيل إلا بعد الرجوع إلي دولتي المصب.وتضمّ مبادرة حوض النيل دول مصر والسودان وأوغندا وإثيوبيا والكونغوالديمقراطية وبوروندي وتنزانيا ورواندا وكينيا واريتريا. وفي الشهور القليلة الماضية وقعت بوروندي في حركة مفاجئة علي الاتفاقية الاطارية التي تمحومشروعية اتفاقيتي 1929 و1956 وحسب خبراء مياه دوليين فإن سد الالفية الإثيوبي العظيم سيخفض مياه بحيرة ناصر إلي 75 مليار متر مكعب.. ويقلل طاقة توليد الكهرباء 20 كما يهدد بتوقف زراعة مليون فدان من الأراضي الزراعية الحالية في الوادي والدلتا وتشريد خمسة ملايين مواطن يعتمدون علي زراعة هذه المساحات.وأنه يلزم ألا نفاجأ دائماً بأن إثيوبيا تنشئ سدوداً لا نعلم عنها شيئاً مع استمرار إثيوبيا في تحديها مصالح مصر والسودان سيؤدي إلي إلحاق الضرر الفعلي بالمجري الرئيسي لنهر النيل. كما سيؤدي سد «الألفية العظيم» إلي انخفاض كميات المياه التي يتم تخزينها في بحيرة ناصر من 120 مليار متر مكعب إلي 75 ملياراً فقط بعد اكتمال إنشائه مباشرة، وانخفاض طاقة توليد الكهرباء من السد العالي وقناطر إسنا ونجع حمادي بمعدل . تفيد الدراسات أن السد الجديد المزمع إقامته في إثيوبيا يخزن مليار متر مكعب من إجمالي مليار متر مكعب من المياه الواردة إلي مصر من أنهار النيل الأزرق وعطبرة والسوباط، مؤكداً أنه عند اكتمال إنشاء السد ستصبح إثيوبيا قادرة علي التحكم الاستراتيجي في وصول مياه الفيضان إلي مصر. ويدفعنا ذلك الي التحذير من أن الاستمرار في السياسة الحالية لأديس أبابا ستؤدي إلي إلحاق أضرار بالغة حيث أن انخفاض كميات المياه الواردة سيؤدي أيضاً إلي احتمال تداخل مياه البحر المتوسط مع مياه الخزان الجوفي في شمال الدلتا، وارتفاع معدلات ملوحة المياه الجوفية المتجددة، وملوحة التربة وانخفاض إنتاجية المحاصيل الزراعية. وتفيد معلومات مؤكدة أن إثيوبيا تقوم بتحريض دول المنابع الاستوائية ضد مصر والسودان مما يتعين معه قيام الدولة المصرية بالتحرك الفوري تجاه أديس أبابا واللجوء إلي مجموعات الضغط والمنظمات الدولية المعنية بالبيئة حتي يلتفت العالم إلي الآثار البيئية المتوقعة لإقامة السدود الإثيوبية سواء علي البيئة النباتية أوالسمكية وقد لفت كتاب العميد الإسرائيلي (فرجي)إلي ما فعلته (إسرائيل) لكي تحقق مرادها في إضعاف مصر وتهديدها من الظهر، وكيف أنها انتشرت في قلب إفريقيا (في الفترة من عام56 إلي77 أقامت علاقات مع32 دولة افريقية ) - لكي تحيط بالسودان وتخترق جنوبه، وكيف وسعت علاقاتها مع دول حوض النيل للضغط علي مصر . ووفقا للكتاب (الإسرائيلي)، فقد احتلت إثيوبيا أهمية خاصة في النشاط الاستخباراتي نظرا لقدرتها علي التحكم في منابع النيل، وتقاطر عليها قادة الأجهزة الأمنية (الإسرائيلية) في أواخر الخمسينيات وبداية الستينيات علي نحولافت للنظر، وكان التعاون العسكري هوأكثر ما اهتمت به (إسرائيل) . وهوما يفسر أول زيارة يقوم بها رسميا رئيس وزراء إثيوبيا ل(إسرائيل) وما تلاها من لقاءات، ويطرح علامات استفهام حول العلاقة الاستراتيجية بين الصهاينة ودول حوض النيل في الوقت الذي تدور فيه خلافات بين هذه الدول ومصر علي حصص مياه النيل . مصر ودول حوض النيل وفي ظلِّ توقعات الخبراء بأن الحرب القادمة ستكون علي المياه والنقص الشديد الذي تعاني منه جميع دول حوض النيل التي اقتربت من خط الندرة المائية (500 متر مكعب للفرد سنويا)، تواجهنا التكهنات بمصير الأزمة الحالية، وإلي أي مدي يمكن أن تصل؟ وما حجم الدور الصهيوني فيها؟ وهل سينجح قريبًا في تحقيق أهدافه؟ وما مستوي تهديدات مشروعاته في دول المنبع علي أمن مصر المائي؟ وكيف يمكن الخروج من هذا النفق المظلم دون اللجوء إلي القوة؟. ويري بعض الباحثين إن الكيان الصهيوني يلعب دورًا سلبيا ضد مصلحة مصر من خلال وجوده الأمني والسياسي والاقتصادي في دول