كان ولا يزال يسيطر علي التليفزيون المصري حتي هذه اللحظة فكرة أن العالم لم يصبح قرية صغيرة بعد، وأن بإمكانه السيطرة علي عقول المصريين بأخبار وتصريحات يريدها النظام ويبغيها، فمع بداية الأزمة تعامل التليفزيون مع ما يحدث كأن شيئا لم يكن، بل أصر القائمون علي الإعداد في برامجه المختلفة علي استضافة من يتأكدون أنه لن يقول ما يحرجهم علي الهواء، وتعمدوا أن يتم نقل صورة غير حقيقية ومغلوطة لما كان يحدث في ميدان التحرير منذ يوم الثلاثاء الشهير، وراحوا يتحدثون عن إنجازات مبارك، واحتمال وجود تربص أجنبي بمصر، يتحكم فيما يحدث علي أرض ميدان التحرير، حتي مع بداية خروج الشرطة عن المسموح به ضد المتظاهرين، وبداية استشهاد البعض، كان التليفزيون يتحدث في جانب آخر من جوانب الكرة الأرضية، فلا هو ذكر أعداد من استشهدوا، ولا ذكر أعداد المصابين، فقط اكتفي بإعلان وجود عناصر تخريب وسلب ونهب بين المتظاهرين، قاموا بإحراق أقسام الشرطة ودواوين الحكومة والأحياء ومقار الحزب الوطني، مؤكدين دائماً أن الأعداد في التظاهرات تتراوح بين الخمسة آلاف والعشرة، رغم كسرها حاجز مئات الآلاف، مع الإصرار التام علي نقل صورة معينة تجمع عددا قليلا من المتظاهرين لإيهام المشاهدين أن هذا هو المشهد في التحرير، حتي أن بعض المذيعين صرحوا للمقربين منهم أنهم يعملون دون استراتيجية واضحة أثناء تلك التغطية، لكن وما أن أعلن الرئيس مبارك عن قبوله استقالة الحكومة القديمة، وقبول استقالة أحمد عز، إلا وبدأ الضيوف الذين يقوم التليفزيون باستضافتهم في التصريح ببعض الآراء الحقيقية لهم، وهو ما فوجيء به المذيعون ولم يجدوا أمامهم سوي مجاراة الضيوف في طرح الأسئلة بطريقة أكثر جرأة، وهي اللحظة الفاصلة التي حولت مجريات المناقشات علي شاشاته ليزداد سقف الحرية في التليفزيون الحكومي لأول مرة دون أمر أو تدخل من أحد، ويبدو أن غياب أسامة الشيخ عن الظهور بشكل علني، وعدم توجيه أية انتقادات لما يحدث علي القنوات المتخصصة والأرضية لانشغاله بمتابعة الوزير أنس الفقي، هو ما سمح لهؤلاء بالاستمرار في عملهم الإعلامي، باستثناء عدم استضافة أي معارضين، أو سياسيين لا يمكنهم الجزم بما سيقولونه، بل وبمجرد أن بدأ السجناء في الهروب من محابسهم، تحول التليفزيون المصري الحكومي إلي أداة ترهيب وتخويف لكل شعب مصر بعد أن بدأ في بث استغاثات المصريين من كل بقاع المحروسة، وهو التخويف الذي استغله التليفزيون فيما بعد كمحاولة لمنع انضمام أعداد أخري إلي المتظاهرين في ميدان التحرير، مع التأكيد باستمرار أن كل من سيخترق حظر التجول سيعرض نفسه لعقوبات عسكرية، رغم أن الرسالة التي أراد التليفزيون إيصالها للمواطنين لحماية أنفسهم، كان لها ألف طريقة وأسلوب دون ربطها بالمظاهرات وعدم الخروج من المنازل، لكن في النهاية يبدو أن التليفزيون ككيان حكومي من مذيعين ومذيعات هم المستفيدون الوحيدون في الفترة القادمة من ارتفاع سقف الحرية في المرحلة الجديدة التي لا يعرف أحد متي تبدأ.