[email protected] الغربة تجعل الفرد أكثر قدرة علي الرؤية بوضوح، وتمنح الروح نافذة للنظر إلي المشهد من الخارج، دون توتر ولا انفعال يفقد الإنسان في أحيانٍ كثيرة موضوعيته؛ لذلك فالمصريون المغتربون يرون مصر وأهلها بصورة مختلفة تماما عن المصريين غير المغتربين، وعندما يعود المغترب إلي أرض مصر يشعر أن الحياة تغيرت كثيرا عما كانت، وكأن العام بعيدا عن مصر بعشرة أعوام، أو هكذا يشعر من يعود إلي مصر بعد غربة وبُعد عنها بحثا عن وضع مالي أكثر استقرارا، وقد شعرت بهذا الإحساس منذ عودتي إلي مصر قبل شهرين تقريبا، ولم يقتصر شعوري بالتغير «المخيف» في مصر علي الأماكن والشوارع والأحداث، وإنما وهذا هو الأخطر انسحب إحساسي بالتغير علي الناس، وتحديدا علي أخلاقياتهم ومبادئهم التي تبدلت كثيرا، وانحطت بدرجة تثير الفزع. لقد أصبح كل شيء قابل للشراء والبيع، وأصبح هَمُّ كل شخص كيف يخلِّص حقه من غيره، كيف يستنزف ماله، ويصل إلي جيبه ويحصل منه علي أكبر قدر من المكاسب، سواء كان ذلك برضاه أو غصبًا عنه، وكأن كل شخص تحول إلي عدو محتمل للشخص الآخر، وكأن الناس يوجهون غضبهم من الحكومة وأوضاع البلد والأسعار والفساد، إلي غيرهم من الناس، الذين هم مثلهم أيضا، ربما لأنهم لا يستطيعون توجيه ذلك إلي الحكومة، رغم علمهم بأنها سبب كل المصائب! ولا يفكر أحد لا في مصلحة مصر ولا في شكل المصريين ولا في أي شيء إلا في نفسه، وكأن لسان حال كل واحد يقول: «أنا ومن بعدي أنا أيضا!»، فرجل الأمن في المطار استقبلني عند وصولي إلي مصر عائدا من السعودية وآسف في اللفظ «متسولا» بعض ما تجود به نفسي وتخرجه يدي من جيبي، وهو يفعل الشيء نفسه مع كل شخص من كل جنس ولون، يتسول ما تجود به يد هذا أو يسمح به جيب ذاك، غير عابئ بالبدلة الميري التي يرتديها والتي كانت ذات يوم تستحق التمرغ في ترابها، وقد حكي لي أكثر من صديق سعودي تجارب مخزية مع «رُتب» في أمن المطار، تفننوا في تنظيف جيوبهم سواء عند وصولهم إلي مصر أو مغادرتهم إلي بلادهم، وكنت أشعر بخجلٍ وخزي شديدين وألعن في سري الحكومة التي جعلت رجال أمن يحملون علي أكتفاهم رتبا ثقيلة ويبتكرون الطرق المهينة للتسول المُقّنَّع من الذي يستحق والذي لا يستحق! وبعد عودتي بشكل نهائي إلي مصر فوجئت بالحال التي وصلت إليها الناس. إن سواق الميكروباص يريد أن يحصل منك علي أعلي أجرة ولو بغير حق، والبقال يريد أن ينظف جيبك ويستحوذ علي كل ما معك، والفكهاني شرحه، والكل يحاول استغلال الكل، بلا رادع من أخلاق ولا مبادئ. وقد لفت نظري جدا خلال بحثي عن شقة للإيجار بعد عودتي، أن أصحاب الشقق لا يسألون من يذهبون لتأجير شققهم عن مهنهم، علي اعتبار أن المهنة قد تنبئ عن أخلاق ومستوي صاحبها الاجتماعي مع احترامنا لكل المهن الشريفة فلم يسألني أحد عن عملي، رغم أن هذه الشقق تقع في بيوت وعمارات أصحابها يسكنونها ولديهم بنات «علي وش جواز»، فكل ما يهم صاحب العقار هو قيمة الإيجار، وكيف يحصل علي أكبر قدر ممكن مستغلا حاجة الباحث عن شقة، أما ما يخص أخلاق هذا الذي يريد تأجير الشقة أو عمله أو وضعه الاجتماعي فذلك كله لا يهم، وهذا شيء خطير جدا، ودلالاته أكثر خطورة لأنها تشير إلي أن الناس لم تعد تهتم إلا بالمال، كم يمكنك أن تدفع؟ وكيف أستطيع الحصول منك علي أكبر قدر من المال؟ هذا هو الشغل الشاغل للناس الآن، أو علي الأقل هذا هو الإحساس الذي صاحبني منذ عودتي إلي مصر، فالمال هو الذي يحرك كل شيء، وأمام المال تختفي قيم وأخلاقيات ومبادئ، كانت هي التي تميز مصر وشعب مصر، لقد أصبح التكالب علي المال هو السمة البارزة والواصمة لهذا العصر، وعندما يصبح المال هو الهم والهدف الأسمي للناس بغض النظر عن طريقة الحصول عليه، فقل علي الدنيا السلام!