هرباً من جحيم القاهرة، انطلقت بسيارتى على أحد الطرق الصحراوية قاصداً الساحل الشمالى، وبعد ساعة من ملل الطريق، لمح حفيدى - الذى كان معى - لافتة مثبتة على الجانب كتب عليها أن هذه الأراضى التى على الجانبين مملوكة للدولة، وغير مخصصة للبيع! فسألنى، وهو كثير التساؤل، قال هل هذه اللافتة تقصد كل هذه الأراضى؟ وأشار بكلتا يديه إلى الفضاء اللانهائى حولنا، فأجبته بإيماءة من رأسى بالإيجاب وعيناى ترقبان عداد السيارة خشية تخطى حاجز السرعة المقررة، فأردف هو سؤاله بآخر - وهو سليط اللسان لا يكف - قال: طيب إذا كانت هذه الأراضى صحراء جرداء هكذا فما تصنع بها الدولة؟ لزمت أنا الصمت عجزاً عن الإجابة ونهرته لأغطى على عجزى هذا متعللاً بكمين الرادار الذى أحدس موضعه فى مكان قريب، فسكت هو على مضض.. لكن سؤاله لم يبرح ذهنى قط.. فعلاً، إذا كانت هذه الأراضى صحراء جرداء هكذا، ولم تعمرها الدولة «ولا أظن أنها ستفعل طبعاً» فلماذا هى غير مخصصة للبيع لمن يعمرها؟ وأدركت أن حفيدى الصغير قد مس قضية، حرت أنا منذ زمن فى تفسيرها وهى «قضية: ملكية الدولة للأراضى الصحراوية كما تفهمها الدوائر الرسمية والشعبية فى مصر» وتذكرت مشهداً رأيته مؤخراً فى إحدى القنوات التليفزيونية لأحد ضباط الشرطة العظام وهو يشرف على إزالة مجموعة من المنشآت فى طريق القاهرة - الإسكندرية الصحراوى، ويدكها دكاً بآليات ضخمة فيسوى بها الأرض وهو واقف عاقداً ذراعيه خلف ظهره متشبهاً بالإمبراطور بونابرت، وهو على رأس «الجراند آرميه» فى معركة أوسترليتز! وقد بدا فى المشهد ملاك هذه الأبنية يقفون مشدوهين فى غير حيلة! وقال الضابط يومها «إن هيبة الدولة والقانون» هى التى حملته على هذا الفعل وأن هذه المنشآت مقامة غصباً على أرض مملوكة للدولة، ودمغ صاحب هذا الغصب بالانحراف «وأنا والله لا أعرف هذا الرجل»، وإن كنت لم أفهم إن كانت صفة الانحراف هذه عن واقعة الغصب، أم عن واقعة الإنشاء، لكننى أسفت على هذا الفعل البربرى الذى سيحول هذا المكان إلى خرابة ضمن الخرابات الأخرى التى تنتشر فى بلدنا، وتذكرت وقائع أخرى متشابهة كانت تنشر فى الصحف بين وقت وآخر وتوصف بأنها غصب لأراضى الدولة ولا ينجو صاحبها من التشهير والنيابة والمحاكمة، مع الإصرار على الهدم، وفى كل مرة يفاخر المسؤول الحكومى بأنه أعاد للدولة كذا مليونا من الجنيهات ممثلة فى قيمة هذه الأراضى، ولا أفهم أنا تماماً ما الذى يعنيه بكلمة «الإعادة» هذه، ولا أدرى كيف يفهم هو أصلاً الهدف من ملكية الدولة لهذه الأراضى لكنه أياً ما كان الأمر فليست المشكلة فى هذا المسؤول أو ذاك، إنما المشكلة فى المشرع أساساً، ولنبدأ الحديث من بدايته الصحيحة مستأذنين إخواننا رجال القانون فى تبسيط الجوانب القانونية فيه وشرحها - موجزين - حتى يتفهمها غير المتخصصين إن أرادوا المشاركة فيها برأى. الدولة «شخص معنوى» شأنها شأن أى شخص معنوى آخر، وإن تميزت عن الأشخاص المعنوية الأخرى ببعض الخصائص التى تنفرد بها، وهى بهذه الصفة «الشخصية المعنوية» لها «أهلية» تمكنها من التعامل مع غيرها، كما تمكنها من اكتساب المراكز القانونية المختلفة ومن ذلك كسب ملكية الأشياء «ومنها العقارات» التى تكون على إحدى صورتين، أولاهما صورة غير عادية والأخرى صورة عادية، فأما الأولى «الصورة غير العادية» فتسمى الملكية العامة والأموال المكتسبة - موضوعها - تسمى الأموال العامة، وهى صورة غير عادية لأنها تختلف اختلافاً بيناً عن الصورة العادية للملكية بوجه عام سواء من ناحية وسائل اكتسابها، أو من ناحية الأحكام القانونية المتعلقة بها أو حتى القانون الذى يحكمها، وهذا النوع من الملكية «الملكية العامة» لا شأن لنا به، ولا يدخل فى نطاق حديثنا المطروح. أما الصورة الثانية من ملكية الدولة للأشياء «ومنها العقارات» فهى الملكية الخاصة أو العادية لها، وتكتسبها الدولة تماماً كالأفراد العاديين أو الأشخاص المعنوية الأخرى وذلك بالوسائل العادية المعروفة لكسب الملكية «عدا بعض الاستثناءات القليلة»، والأحكام القانونية التى تسرى على هذا النوع من الملكية واحدة بالنسبة للدولة أو بالنسبة لغيرها، وأيضاً فإن القانون الذى يحكمها هو واحد بالنسبة للجميع «القانون المدنى»، والراجح أن معيار التفرقة بين نوعى الملكية اللذين ذكرا هو تخصيص الأموال موضوعها - أو عدم تخصيصها - للنفع العام، فكل مال تملكه الدولة يكون مخصصاً لنفع عام، هو مال عام ملكيته من النوع الأول وما عداه هو مال خاص للدولة من النوع الثانى تملكه كما يملك زيد أو عمرو ماله، أو كما تملك شركة فلان أو علان أموالها، وهذه الصورة من ملكية الدولة للعقار هى ما تعنينا فى هذا الحديث لأن الأراضى التى يقرأ القارئ - أو يسمع - عن «اغتصابها» بين حين وآخر هى من هذا النوع الآخر «ملكية الدولة الخاصة» فلا يتصور - عقلاً - أن يغتصب فرد عقاراً مملوكاً للدولة ملكية عامة، ومخصصاً لنفع عام كالطرق أو الموانئ أو الميادين أو نهر النيل أو معسكرات الجيش أو أبنية المحاكم أو أقسام الشرطة.. إلخ. ويقول فقهاء القانون إن ملكية الدولة الخاصة للأراضى هى «ملكية ضعيفة»، ويقصدون بذلك أنه وإن كانت هذه الملكية كملكية الفرد تماماً من ناحية الأحكام القانونية التى تسرى عليها، والتى توجب حمايتها إلا أنها تختلف عنها من الناحية الفعلية اختلافاً ظاهراً حيث تتعرض للفقدان الفورى بأيلولتها إلى فرد، أو جملة أفراد فى الحال، إذا قاموا بأعمال معينة ينص عليها القانون عادة، كالبناء على هذه الأراضى أو زراعتها أو نحو ذلك. والواقع أن مرد هذا الحكم أن الدولة - فى الأصل - قد اكتسبت هذه الملكية بحكم الضرورة أكثر منها أى شىء آخر حيث إنها مالكة لجميع العقارات التى لا مالك لها على إقليمها، وأن هذه الضرورة إنما تجعل بقاء الأرض فى ملك الدولة بقاء موقوتاً بطبيعته، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن الدولة غير مهيأة بطبيعتها للاستمرار فى تملك الأراضى هكذا دون هدف محدد، كما لا يدخل ضمن وظائفها المتعددة المضاربة على سعر الأراضى والتربح من وراء ذلك بالمزايدة عليها، كما يتعين عليها الترفع عن حبس ملكها العقارى للإفادة من رفع سعره إلى غير ذلك، مما لا يشين الفرد لو أتاه على ملكه ولكنه ينال من هيبة الدولة ومكانتها لدى مواطنيها إذا ما فعلته، فالأصل فى الملكية العقارية بمعناها الكامل أنها للأفراد، فرادى أو مجتمعين، فهم الذين يشتغلون عادة بأعمال البناء أو الزراعة سواء لذاتها أو لخدمة أهدافهم الاستثمارية، أما الدولة فليس ذلك من وظائفها فى شىء حتى فى ظل اطراد تدخلها فى الحياة الاقتصادية. وعلى ضوء هذه الاعتبارات فإن الدول المختلفة «عدا الشيوعية منها إن كانت بقيت منها دول» تحرص على أن تضمن تشريعاتها ما يعد تطبيقاً للمبدأ الذى ذكرنا، بأن تجعل تملك الفرد فى الحال لأرض مملوكة للدولة «ملكية خاصة طبعاً» هو المقابل الطبيعى لجهده فى تعميرها، ودون توقف على إجازة من أحد حتى الدولة نفسها «بمعنى أن يستمد الفرد حقه فى التملك الفورى من القانون مباشرة»، ذلك أن «العمل» هنا هو «أساس حق الملكية» متمثلاً فى جهد التعمير بالبناء أو الغرس أو الزراعة، ويكون أيضاً هو أساس حق تملك الأفراد فى الحال للأرض التى لا تقع فى ملك أحد الناس وتقع فى ملك الدولة. وقد شهد التاريخ الحديث - ومازال - حركات تعميرية واسعة فى الدول والقارات المختلفة قامت أساساً على المجهودات الخاصة لكن اكتسبت سندها الشرعى من مثل هذه النصوص التى يندر أن يخلو منها تشريع وطنى، وقد بلغ استقرار هذا المبدأ حداً، عد معه من المسلمات القانونية. وفى زمان مضى لم يكن فيه المشرع مفرطاً فى التشريعات، ولم يكن مقلاً فيها، ولكن كان بين ذلك قواماً، وكان إذا عرض لأمر ليتصدى له بتشريع نحّى الانفعال والاندفاع جانباً، وأسس تشريعه على المصالح والاعتبارات الموضوعية والدراسة الجادة التى يتعين أن تكون دواماً أساساً لكل تشريع فصدر القانون المدنى المصرى فى سنة 1949 متضمناً بوضوح هذا المبدأ فنص فى المادة 874 منه على ما يأتى: «الأراضى غير المزروعة التى لا مالك لها تكون ملكاً للدولة، ولا يجوز تملك هذه الأراضى أو وضع اليد عليها إلا بترخيص من الدولة وفقاً للوائح، إلا أنه إذا زرع مصرى أرضاً غير مزروعة أو غرسها أو بنى عليها تملك فى الحال الجزء المزروع أو المغروس أو المبنى، ولو بغير ترخيص من الدولة، ولكنه يفقد ملكيته لعدم الاستعمال مدة خمس سنوات متتابعة خلال الخمس عشرة سنة التالية للتملك». وفى ظل هذه الإباحة العاقلة، والتى كانت بدورها تكراراً لإباحة سابقة بالقانون المدنى الأهلى «المادة 57 منه» شهدت البلاد نهضة عمرانية ضخمة امتدت لتشمل «مديريات» بأسرها «كمحافظة كفر الشيخ الحالية وأجزاء شاسعة من محافظتى الشرقية والبحيرة، والصعيد سيما شرق النيل» ومدناً بأكملها «كامتداد القاهرة شرقاً بما فيها مصر الجديدة وامتداد الإسكندرية جنوباً وغرباً بما فيها سموحة والعجمى وكذا مدن القناة وما حولها». لكن الحال فى التشريع لم يدم فبدأ هذا الأصل فى الإباحة يتوارى تدريجياً لسبب غير مفهوم ليحل محله أصل آخر مناقض له، وهو التحريم، نشأ أساساً «كروح عامة» سرت فى مصر إبان عصر عبدالناصر، حاصلها النظر بعين الريبة وعدم الارتياح لملاك الأراضى بوجه عام، وسواء كانت الدوافع لهذه الروح دوافع نفسية لدى رأس النظام آنذاك، أو فلسفة عقائدية لديه فإن أثره انعكس على السياسة التشريعية بأسرها، فصدر القانون 124 لسنة 58 فى شأن تملك الأراضى الصحراوية يحمل سمات الحظر والتحريم ثم صدر القانون الشهير 100 لسنة 1964 الذى حظر هذا الأصل تماماً، وتشدد تشدداً غريباً فى هذا الأمر، ولم تقم فى ظله للتعمير الخاص قائمة، وجرى الخلط بين الملكية العامة للأراضى والملكية الخاصة لها، وأحكمت الدولة قبضتها تماماً على الأراضى غير المعمورة وأبقتها فى حيازتها، فلا هى عمرتها لاستحالة ذلك وعظم عبئه عليها، ولا هى تركتها لآحاد الناس يفعلون، مخالفة فى ذلك كل الأصول القانونية التى تجرى عليها الدول والتى تشجع التعمير والتوسع العمرانى، والغريب أن الدولة ذاتها قد دخلت سوق الأراضى فزايدت على أراضيها «!!» وزادت لهيب أسعارها استعاراً، وتصرفت فى هذا الأمر كأبشع تاجر مستغل، وإن كنت لا أشك فى أن هذا الأمر قد تم جهلاً من موظفيها، دون تعمد أو سوء نية، على أنه لا ينال من هذا النظر أن تكون هناك نصوص تجيز امتلاك الأراضى بشروط معينة أو بيعها بالممارسة، مادام الأصل فى الأمر كله هو الحظر والتحريم. فإذا كان ما تقدم، فإننى أرى أنه ليس الانحراف بأى مقياس هو وضع اليد بغرض التملك على أرض مملوكة للدولة، ولكن أخشى القول بأن الانحراف هو حظر ذلك والوقوف فى مواجهته والتصدى له، لأنه - فى جوهره - لا يخالف عرفاً قانونياً سائداً فى الدنيا بأسرها فقط، بل هو أيضاً حظر للتعمير والبناء والتشييد والزراعة وقيد على التقدم، ولا يستطيع إدراك ذلك إلا غيور شاهد بلاداً أخرى كانت أدنى منا مكانة فصارت شواطئها وقفارها جنات يؤمها السائحون، وتدر عليها البلايين، ومن شاء التثبت فلير ما فعلوا بإسبانيا أو اليونان بل الشرق الأقصى، ونحن هنا لا نمل من إعادة الأراضى لتحوزها الدولة، ووادينا يكتظ بالسكان، وإذا فكر أنصار الحظر ومغاويره أن الدولة بمفردها - مع مهامها الثقال - قادرة على خلق آفاق من التعمير الشاسع يماثل جهد المستثمرين فهم فى وهم يحلمون. وأخيراً.. أقول قولى هذا وأقسم بالله العظيم ثلاثاً أننى لا أعرف من أشرت إليه فى واقعة غصب أراضى الدولة، الذى نشر عنه مؤخراً، وليس لى أو لأحد أقاربى فيلا أو مسكن فيما هدم.