جيء إلى الإمام بأحد الأسرى، فقال الأسير متضرّعاً: لا تقتلني صَبراً. فقال الإمام: لا أقتلك صبراً، إني أخاف الله رب العالمين. ثم نظر الإمام لأصحابه وهو يضئ قنديلٍ في قلب أسيره: خَلّوا سبيله.. انطلق الأسير وقد هزّته المفاجأة . يكاد يرقص طرباً . ثم اشتعلت المعارك مرّة أخرى، وكانت كفّة النصر تميل إلى جانب الحق.. الإمام علي يتقدم الصفوف يقاتل ببسالة، وكانت أقوى ضرباته بعد مصرع عمار بن ياسر. وقف الإمام علي وتحلقت به الأبصار .. ثم هتف قائلاً : مَن يُبايعني على الموت ؟ فتقدّم العشرات يبايعون الإمام على الموت الأحمر من أجل السندس الأخضر، حتّى وصل عددهم تسعاً وتسعين بطل .. قال الإمام وهو يترقب تحقّق نُبوءة ابن عمّه العظيم : أين تمام المئة ؟ أين الذي وُعِدتُ به ؟ لم يلبث إلا قليل حتى جاء رجل عليه أطمارُ صوف.. كان محلوقَ الرأس لَكأنّه عاد توّاً من حجّ البيت العتيق .. تقدّم فبايع الإمام على الموت قتلاً.. فسأله الإمام : من الرجل . فأجاب: أنا أُوَيس القرَنَي. فتهلل وجه الإمام وتذكر حديث النبي العدنان حيث قال يوماً لعمرَ بن الخطاب وعليِّ : إذا لقيتما أويساً القرني فاسألاه أن يستغفر لكما فإنه مجاب الدعوة. اكتملت كتيبة الأبطال .. و وصلت الحرب إلى أخطر منعطفاتها، وألقى الإمام بيانه العسكري الهام .. جاء فيه: معاشر المسلمين، استشعِروا الخشية.. وتَجلبَبوا السَّكينة، وعُضّوا على النواجذ، فإنّه أنبى للسيوف عن الهام.. وأكملوا اللأمة.. وقلقلوا السيوف في أغمادها قبل سَلها... واعْلَموا أنّكم بعين الله، ومع ابن عم رسول الله؛ فعاودوا الكَرّ، واستَحْيوا من الفرّ، فإنّه عارٌ في الأعقاب، ونارٌ يوم الحساب.. وطِيبوا عن أنفُسكم نَفْساً، وامشوا إلى الموت مَشياً سُجُجاً.. ويرسم البطل لكتيبته وعسكره خطة الهجوم وهدفه : وعليكم بهذا السواد الأعظم، والرواق المطنّب؛ فاضرِبوا ثَبَجَهُ، فإنّ الشيطان كامن في كِسْره، وقد قَدّم للوثبة يداً وأخّر للنُّكوص رِجلاً، فحمداً حمداً! حتّى ينجلي لكم عمود الحقّ وأنتمُ الأعلَوْن واللهُ معكم ولن يَتِرَكُم أعمالَكم ومع انبلاج خيوط الفجر بدأ الهجوم الشامل ورأس الحربة فيه كتيبة علي يقودها بنفسه ، وكان الإمام قد خرج في أجمل منظر.. فقد ركب فرساً للنبيّ يُسمّى « الريح »، وقدّم بين يديه بغلة النبيّ « الشهباء » وارتدى عِمامة رسول الله .. وتنادت الكتائب العلوية من كل مكان بشعار الحبيب محمداً : ( يا منصور أمت ) تزلزلت خطوط الدفاع في جيوش الشام ، وتوهّجت في أذهان المؤمنين ذكريات مضيئة لرسول السماء. ها هو عليّ يقودهم في ذات الطريق التي سار عليها نبيُّهم العظيم .. استبدّ بمعاوية الهَلَع وهو يرى تقهقرَ قوّاته تحت ضربات المهاجمين، وأمسك بزِمام فرسه وقد قفز قلبه إلى حُنجرته وراح يدقّ بعنف كطبل مجنون.. ولم تُفلح أوامر معاوية ولا صيحاته بعمرو أن يقدّم قبائل « عك ولخم وجذام و الأشعرين » في تغيير الموقف.واستمرت المعارك ستّاً وثلاثين ساعة لا يُسمَع فيها سوى الهرير والأنين لا يقطعها بين الفَيْنة والأخرى إلا هتافات عليّ: الله أكبر . زحف الناس بعضهم إلى بعض و ارتموا بالنبل حتى فنيت و تطاعنوا بالرماح حتى تكسرت ، ثم تضاربوا بالسيوف وعمد الحديد و اشتد القتال حتى جرت الدماء جري الماء، و انهزم جيش الشام و كان وقع الحديد على الحديد أشد هولا من الصواعق و الجبال حين تنهدم و انكسفت الشمس و ثار الغبار و ضلت الألوية و الرايات و وصلوا النهار بالليل .. ولم تُفلح مساعي معاوية في وقف القتال وتوقيع هدنة مؤّقتة..وإلى جانب معاوية وقف الرجل الداهية عمرو بن العاص .. يفكّر ويفكر .. التفت معاوية إلى صاحبه وقد استبدَّ به يأس قاتل : ما ترى ؟.. فإنّما هو يومُنا هذا وليلتنا هذه! وهنا نفث الداهية فقال وهو يعرف كيف يطعن في الخاصرة: إنّي أعددتُ حيلةً ادّخرتُها لمِثل هذا اليوم. قال معاوية جزعاً متلهفاً: ما هي ؟ قال عمرو: تدعوهم إلى كتاب الله حَكَماً بينك وبينهم.. وأضاف بمكر: فإن قبلوه اختلفوا، وإن ردّوه تفرّقوا. هنا اتّسعت عينا معاوية دهشة وأصبَحَتا أكثر جُحوظاً . وعلى وجه السرعة جُمعت المصاحف في واحدة من أكبر خدع التاريخ .. وظهر مصحف دمشق الأعظم تحمله خمسة رماح طويلة. وظهر خمسمائة مصحف على رؤوس الرماح وأهل الشام ينادون ويستعطفون أهل العراق ويطلبون منهم ترك الحرب، وكان آخر كلامهم : هذا كتاب الله بيننا وبينكم. فهم الإمام الخديعة علي الفور وقال : اللهم إنك تعلم أنهم ما الكتاب يريدون. لكن ظهور المصاحف على الرماح كان له الأثر البالغ في شلّ العمليات الحربية، وبدأت كلمات الاستنكار تشقّ طريقها ترشق الذين يريدون للحرب أن تستمرّ، وما أسرع أن ظهر الخوارج يدعون إلى وقف القتال فوراً، حدث انشقاقٌ خطير في صفوف جيش الخلافة، ما لبث أن تحوّل إلى كُتلة عسكرية تهدّد وتتوعد القيادة العليا . تهدد علي نفسه .. أحاطوا بسرادقه والمخلصين من أتباعه أهل العقل والرأي في غمار المعركة يجالدون الزيف .. بذل الإمام قُصارى جهده في توضيح خفايا « اللعبة » قائلاً: عباد الله .. امضُوا على حقّكم وصِدقكم في قتال عدوكم، فإنّ معاوية وعمرو بن العاص وابن أبي مُعَيط وحبيب بن مسلمة وابن أبي سرح والضحّاك بن قيس.. ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن.. أنا أعرَفُ بهم منكم.. قد صحبتُهم أطفالاً، وصحبتهم رِجالاً، فكانوا شرّ أطفال وشرّ رِجال..وَيْحَكم! إنّهم ما رفعوها لكم إلاّ بغرض الخديعة والوهن والمكيدة!. غير أنّ الخوارج اهتبلوا الفرصة اليانعة .. فهم قوماً لا يُدركون من الأمور إلاّ مظاهرها الفارغة قد جعلوا أصابعهم في آذانهم وأصمّوا أسماعهم، وازدادوا عُنفاً وشَراسة، فأحدقوا بالإمام وقد برق الشرّ في عيونهم . وفي المقابل حدث تماسك مدهش في صفوف أهل الشام اثر ارتفاع ذلك الشِّعار البرّاق... في مقابل تمزّق مريع في جيش الإمام. كان الجناح الأيمن بقيادة الفارس مالك الأشتر ما يزال يقاتل بضراوة ويتقدّم نحو إحراز النصر النهائي في خُطى واسعة، ولكنّ التصدّع كان قد عمّ جبهة الإمام ممّا أنذر بوقوع انهيارٍ عام؛ ومن تلك اللحظات المثيرة بدأت مأساة الإسلام . ازدادت الأمور سوءً بعد أن أصبح الإمام وحيداً إلا من النفر القليل وسط تلك الطُغمة من الحمقى، وبات على القائد الأعلى للقوّات المسلحة أن يتجرع الغيظ ويستجيب إلى مواقفهم .. حاول الإمام مرة أخري أن يفيقهم من سكرتهم .فخاطبهم :أعيروني سواعدكم وجماجمكم ساعة واحدة ، فقد بلغ الحق مقطعه ، ولم يبق إلا أن يقطع دابر الذين ظلموا . فجاءه زهاء عشرين ألفا مقنعين في الحديد شاكي السلاح ، سيوفهم على عواتقهم ، وقد اسودت جباههم من السجود ، يتقدمهم الأشعث بن قيس الكندي ، ومسعر بن فدكى التميمي ، وزيد بن حصين الطائي ، وعصابة من القراء الذين صاروا خوارج من بعد ، فنادوه باسمه لا بإمرة المؤمنين : يا علي ، أجب القوم إلى كتاب الله إذا دعيت إليه ، وإلا قتلناك كما قتلنا ابن عفان ، فوالله لنفعلها إن لم تجبهم .. وقعت الواقعة .. وأسفرت الخوارج عن قبحها .. وها هو الإمام يتعجّب من ذلك فيقول: لقد أصبحت الأُمم تخاف ظُلمَ رُعاتها؛ وأصبحتُ أخاف ظلم رعيتي! ومن تلك اللحظة شعر الإمام بأنّ الباطل سوف يكسب الجولة إلى حين فقال : أما والذي نفسي بيده: ليظهرنّ هؤلاء القوم عليكم، ليس لأنّهم أولى بالحق منكم، ولكنْ لإسراعهم إلى باطل صاحبهم، وإبطائِكم عن حقّي.. أخد تيّار التمرّد الذي أعلنه الخوارج يتصاعد بشكل مخيف ليُنذر بوقوع كارثة بعد أن أُطلقت تهديدات بقتل الإمام إذا لم يُصدر أوامره إلى الأشتر بوقف العمليّات الحربيّة والانسحاب فوراً. أرسل الإمام علي بيزيد بن هانئ إلي الأشتر لكي يعود إلي المعسكر ويوقف القتال .. فانتفض الأشتر وقال له وهو يخوض غمار المعركة .. أبلغ علياً أن النصر لاح وإنما هي صبر ساعة .. ولا ينبغي أن يزيلني عن موقفي هذا ، إني قد رجوت أن يفتح الله علي فلا تعجلني، فرجع يزيد بن هانئ إلى علي فأخبره عن الأشتر بما قال، وصمم الأشتر على القتال ليقتنص النصر.. فارتفع الهرج وعلت الأصوات. فقال أولئك القوم لعلي: والله ما نراك إلا أمرته أن يقاتل. فقال: أرأيتموني ساررته؟ ألم أبعث إليه جهر وأنتم تسمعون؟ فقالوا: فابعث إليه فليأتك وإلا والله اعتزلناك. فقال علي ليزيد بن هانئ: ويحك! قل له : أقبل إلي فإن الفتنة قد وقعت.. فلما رجع إليه يزيد بن هانئ فأبلغه عن أمير المؤمنين أنه ينصرف عن القتال ويقبل إليه، جعل يتململ ويقول: ويحك ألا ترى إلى ما نحن فيه من النصر، ولم يبق إلا القليل؟ فقال يزيد بن هانئ كلمة قطعت حبل الجدال : أيهما أحب إليك أن تقبل أو يقتل أمير المؤمنين كما قتل عثمان؟ ثم ماذا يغني عنك نصرتك ها هنا؟ قال: فأقبل الأشتر حزيناً إلى علي وترك القتال. ودخل الفارس الأشتر فسطاط سيده علي وعينه تترقرق بالدموع .. وانحنى الفارس يلثم يد الإمام .. وعلي يربت علي كتفه .. ثم انطلق الأشتر يحاور القوم ويفضح جهلهم ويعري ضعف إيمانهم .. وزيف يقينهم ، فقال: يا أهل العراق! يا أهل الذل والوهن، أحين علوتم القوم، وظنوا أنكم لهم قاهرون، رفعوا المصاحف يدعونكم إلى ما فيها، وقد والله تركوا ما أمر الله به فيها، وسنة من أنزلت عليه، فلا تجيبوهم، أمهلوني فإني قد أحسست بالفتح. قالوا: لا. قال: أمهلوني عدو الفرس فإني قد طمعت في النصر. قالوا: إذا ندخل معك في خطيئتك. ثم أخذ الأشتر يناظر أولئك القراء الداعين إلى إجابة أهل الشام بما حاصله: إن كان أول قتالكم هؤلاء حقا فاستمروا عليه وإن كان باطلا فاشهدوا لقتلاكم بالنار. فقالوا: دعنا منك فإنا لا نطيعك ولا صاحبك أبدا ونحن قاتلنا هؤلاء في الله وتركنا قتالهم لله. فقال لهم الأشتر: خدعتم والله فانخدعتم ودعيتم إلى وضع الحرب فأجبتم، يا أصحاب السوء كنا نظن صلاتكم زهادة في الدنيا وشوقا إلى لقاء الله، فلا أرى فراركم إلا إلى الدنيا من الموت، يا أشباه الرجال .. ما أنتم بربانيين بعدها، فابعدوا كما بعد القوم الظالمون. فسبوه وسبهم فضربوا وجه دابته بسياطهم، وجرت بينهم ملاسنة طويلة .. ورغب أكثر الناس من العراقيين وأهل الشام بكمالهم إلى المصالحة والمسالمة مدة لعله يتفق أمر يكون فيه حقن لدماء المسلمين، فإن الناس تفانوا في هذه المدة، ولا سيما في هذه الثلاثة الأيام المتأخرة التي آخر أمرها ليلة الجمعة وهي ليلة الهرير. والحق أن كل من الجيشين فيه من الشجاعة والصبر ما ليس يوجد في الدنيا مثله، ولهذا لم يفر أحد عن أحد، بل صبروا حتى قتل من الفريقين فيما ذكره غير واحد سبعون ألفا خمسة وأربعون ألفا من أهل الشام، وخمسة وعشرون ألفا من أهل العراق. وهكذا توقّفت المعارك في صفّين.. ونشطت الوفود للإعداد من أجل توقيع وثيقة التحكيم. وللحديث بقية بمشيئة الله إن كان في العمر بقاء .