صفين يقف فيها جيش العراق وفيه المهاجرين والأنصار بقيادة الإمام علي الخليفة الشرعي في مواجهة جيش الشام بقيادة معاوية بن أبي سفيان . هدوء مَشوب بالحذر يسود أرض صفّين .. لم تحدث بعد إشتباكات تُذكَر. مراسلات تجري بين الفريقَين لم تُسفر عن نتيجة ؛ ومن الطبيعي أن تصطدم المطامع والأهواء بالمبادئ والقيم والدين الحقّ . خلال الفترة التي سبقت الأشهُر الحُرُم .. شهد وادي صفّين ما يقرب من ثمانين اشتباكاً محدوداً على مستوى الكتائب، وكان ( قُرّاء القرآن ( في كلّ مرّة يتدخّلون لوقف القتال والبحث عن طريق سلميّ لحلّ الصراع. انسلخت سريعاً الأشهر الحُرم . أطلّ شهر صفر، تمرّ الأيام، دون أن تلوح في الأفق بوادر للحرب، ويبدو أنّ أصحاب الإمام علي قد استبطأوا قيادتهم في إصدار الأوامر بالهجوم، وانتشرت شائعات حول شكّ الإمام في مشروعيّة قتال أهل الشام . وأخري ترددت بين حديثوا العهد بالإسلام أن علي يخاف لقاء معاوية وجيشه .. علي الفور صدر بيان القيادة العامة يحمل ردّ الإمام على ذلك .. وجاء فيه : أمّا قولكم: أكُلَّ ذلك كراهيةَ الموت ؟ فوالله ما أُبالي دخلتُ إلى الموت أو خرج الموت إليّ .. وأمّا قولكم شكّاً في أهل الشام ! فوالله ما دفعتُ الحربَ يوماً إلاّ وأنا أطمع أن تلحق بي طائفة فتهتدي بي، وتعشوا إلى ضوئي، وذلك أحبُّ إليّ من أن أقتلها على ضلالها وإن كانت تبوء بآثامها. وفي الغروب وقف جنديٌّ جهوري الصوت قريباً من معسكر معاوية وحزبه .. وهتف بأعلى صوته ناقلاً إنذار الإمام : إنّا أمسكنا لتنصرم الأشهر الحُرُم.. وقد تصرّمت، وإنّا ننبذ إليكم على سواء، إنّ الله لا يحبّ الخائنين. وأُعلنت في المعسكرَين حالة التعبئة العامّة ، اشتعلت النيران ، إيذاناً بخوض حرب شاملة .. وما أن أشرقت شمس اليوم التالي حتّى كان الجيشان يقفان على أُهبة الاستعداد، سيطرت حالة من الوجوم والرهبة. إنّ من يقف فوق الروابي المشرفة على الوادي الفسيح سوف يرى كتائب الجيشَين تصطفّ في شكل خطوط قتاليّة، سيرى في كلّ جيش سبعة خطوط، سيرى خطّين في الجناح الأيمن، وخطّين في الجناح الأيسر، وثلاثة خطوط في القلب. عيّن الإمام على سلاح الفرسان في جيشه الصحابيَّ الكبير عمّار بن ياسر الذي لم تمنعه شيبته وقد جاوز التسعين عاماً من الاشتراك في المعارك بحماس المؤمن المجاهد الذي لا يساوره الشكّ في عدالة قضيته. وعيّن على المشاة عبدالله بن بديل، ودفع الراية العظمى إلى هاشم بن عتبة المرقال. وفي جيش معاوية كان عمرو بن العاص يقود سلاح الفرسان، أما مسلم بن عقبة الذي اشتُهر في التاريخ فيما بعد بمجرم بن عقبة فقد تصدّى لقيادة المشاة. لم يحدث اشتباك ذلك اليوم ، ثمّ حدث اشتباك محدود في صباح اليوم الذي تلاه. خرج عبدالله بن بديل وكان من أفاضل أصحاب الإمام يقود مجموعة من فرسان العراق، فانبرى إليه أبو الأعور السلميّ في مثل ذلك من أهل الشام وجرت معارك بين الفريقَين، وفي تلك اللحظات والإشتباكات مستمرة قام عبدالله بحركة جريئة إذ ألهب ظهر حصانه بالسوط وشنّ هجوماً صاعقاً مخترقاً خطوط العدو وحده يهد صفوف جيش الشام هداً ولم يتمكّن أحد من اعتراضه.. وكان هدفه اقتحام مقرّ القيادة حتّى إذا وصل قريباً منها القي عليه جند الشام عشرات الصخور فسقط شهيداً.. ولقد أثار هجومه الجريء إعجاب الجميع بما في ذلك معاوية نفسه، إذ قال وهو يقف متأملاً جثمانه الطاهر: هذا كبْش القوم . . هنا عرض الإمام عليّ عرضاً على معاوية .. وقد آلمه سقوط القتلى من الفريقين قائلاً: يا معاوية .. لِمَ نقتُل الناس بيني وبينك ؟ ابرز إليّ فأيّنا قتل صاحبه تولّى الأمر. استشار معاوية عمرو بن العاص: ما ترى ؟ قال ابن العاص بدهاء : قد أنصفك الرجل . فقال معاوية بحقد: أتخدعني عن نفسي ، أم حدثتك نفسك بان يكون لك الأمر . أنت تعلم أنه ما بارز أحد علي ألا جندله .. لقد كان معاوية يدرك تماماً بأنّ مواجهة عليّ تعني مواجهة الموت الأحمر المحتوم.. ويبدو أن معاوية قد أزعجه موقف ابن العاص وشكّك في نواياه تجاهه، ولم يجد عمرو بدّاً ومن أجل إعادة المياه إلى مجاريها من أن يقول لمعاوية بعد أيام من البرود في العلاقات: سأخرج إلى لقاء عليّ غداً. كان عمرو بدهائه قد أعدّ عُدّته، وكان يعرف نقطة الضعف في خصمه العظيم. إنّها تكمن في مجده الأخلاقي الذي يستمدّه من معلّمه الأول محمداً.. برز عمرو بن العاص متحدّياً علياً: يا أبا الحسن، أُخرُج إليّ أنا عمرو بن العاص.. ثار غبار كثيف .. لقد خرج بطل الإسلام علي فرسه يجيب نداء عمرو .. يتألّق ذو الفقار في قبضة الفارس المغوار الذي لا يُهزَم؛ ومع أول ضربة انهزم عمرو أمام علي . و أسرع يشهر سلاحه السرّي ! فكشف عن عورته ، ونجا بدهائه من الموت المحقَّق .. تصاعدت حِدّة المعارك بين الفريقَين، وسرى شعور بالرهبة بعد أن أُشيع عن نيّة الإمام في بدء الهجوم العام، فقد خطب عشيّة الهجوم قائلاً: ألا إنّكم ملاقو القوم غداً بجميع الناس، فأطيلوا الليلة القيام، وأكثِروا تلاوة القرآن، وسلوا الله الصبر والعفو، والقوهم بالجدّ. وصلت الأخبار سريعاً لمعاوية علي الجانب الآخر .. أسرع معاوية بحشد جنده ورفع روحهم المعنوية بالصورة التي يفهمونها .. ضاعف معاوية رواتب قبائل عكّ والأشعرين التي أقسمت على الصمود حتّى النفس الأخير . أدّى الإمام صلاة الفجر في لحظاته الأولى وقام بجولة لاستطلاع كتائب العدو، وأجرى تغييرات في صفوف قوّاته.. ولأوّل مرّة منذ اندلاع المعارك قاد الإمام بنفسه سلاح الفرسان المؤلَّف من اثني عشر ألف مقاتل في هجومٍ مدمّر، دوّت في الفضاء هتافات: أللهُ أكبر .. وارتجّت الأرض تحت أقدام المحاربين .. وكانت خطّة الهجوم تقضي بالاندفاع الكاسح حتّى مركز قيادة العدو .. فزع معاوية وهو يري كتائب علي تقترب من مركز قيادته .. يسرع بتجهيز فَرَسه للفرار بعد أن جرت الاشتباكات قريباً منه . استمرّت المعارك حتّى الليل، وقد أسفرت الاشتباكات العنيفة عن سقوط عشرات القتلى والجرحى؛ وفي طليعتهم الصحابيّ الجليل البطل عمار بن ياسر . وفي صباح اليوم التالي استمر وقف القتال؛ لانتشال جثث القتلى ومواراتهم الثرى. وفي عشية ليلة يوم الهرير العصيب خطب الإمام حاثّاً قوّاته على الاستبسال: أيّها الناس، اغدُوا على مصافّكم، وازحفوا إلى عدوّكم، غُضّوا الأبصار، واخفضوا الأصوات، وأقِلّوا الكلام، واثبتوا، واذكُروا الله كثيراً، ولا تنازعوا فتفشلوا، وتذهب رِيحُكم واصبِروا إنّ الله مع الصابرين. ومع إشراق شمس اليوم التالي اشتبكت الفيالق في ملحمةٍ عظيمة، واندفع الجناح الأيسر في جيش الشام في هجوم عنيف تراجع أمامه الجناح الأيمن في جيش الإمام، فأمر الإمام علي فارسه المغوار مالك الأشتر أن يقوم بإسناد الجناح الأيمن، ودارت معارك رهيبة، فنجح الفارس في مهمته بعد أن قاد هجوماً جريئاً أجبر فيه العدوّ على التراجع. كان الوقت أصيلاً عندما هدأت حدّة القتال.. وجاء الإمام فأنّب قوّاته في الجناح الأيمن على تقهقرهم في بدء المعركة، وأشاد باستعادتهم زمام المبادرة . وخطب فيهم خطبة هي درس في الشحن المعنوي للجنود .. جاء فيها : وقد رأيتُ جَولتكم، وانحيازكم عن صفوفكم، تحوزكم الجُفاة الطغام وأعراب أهل الشام، وأنتم لَهاميم العرب، ويآفيخ الشرف، والأنف المقدَّم، والسِنام الأعظم، ولقد شفى وحاوحَ صدري أن رأيتُكم بأَخَرَة تحوزونهم كما حازوكم، وتُزيلونهم عن مواقفهم كما أزالوكم حسّاً بالنصال، وشَجراً بالرماح، تركب أُولاهم أُخراهم كالإبل الهيم المطرودة تُرمى عن حياضها وتُذادُ عن مواردها . واشتعلت المعركة مرّة أُخرى، وعندما كانت الشمس تجنح للمغيب قاد الإمام بنفسه قوّاته في هجومٍ كاسح، وكان هدفه احتلال مركز قيادة العدو، كان معاوية يراقب المعركة بذُعر وهو يرى تقدّم المهاجمين، فاستشار عَمرَو بن العاص قائلاً: ما ترى ؟ أجاب ابن العاص: أرى أن تُخلي سرادقك . فعلي وكتيبته علي بعد عدوة فرس .. وانسحب معاوية إلى مكان أكثر أمناً. وما هي إلاّ لحظات حتّى وصل الإمام ومعه قوّاته فأطبقوا على مركز قيادة معاوية وحوّلوه إلى أنقاض، وغمر الأرضَ الظلام.. فتوقّفت المعارك. وللحديث بقية بمشيئة الله إن كان في العمر بقاء ..