عندما شاهدت فيلم " الغابة " أصبت بإحباط وحزن بالغ , ولكن حينما أوقعتني الصدفة في المشاهدة على أرض الواقع بأم عيني أصبت بذعرٍ شديد وشعرت بعدم الأمان والخوف من المستقبل , وتحققت بأن من رأى بأم عينيه ليس كمن سمع أو تابع أفلاماً، فالواقع والمشاهدة الحية شيٌ آخر , وهنا علمت أن الجهل بالشئ أحياناً أفضل من العلم به , ولكن ما شاهدته لايمكن السكوت عنه , وينذر بمستقبل مرعب إن لم ننتبه , فقد كنت اتخيل أن الظاهرة تنتشر فقط في المدن الكبرى كالقاهرة والإسكندرية , لكنها باتت واضحة جلية في المحافظات و إن كان يدل على شئ فهذا يدل على أن " الوبا جاي " . كانت البداية من صباح يوم كسائر الأيام ، أستقل في الصباح سيارتي للتوده الى محل العمل ، واثناء إدارة المفتاح لتشغيل السيارة , سمعت فجأة صراخ , في البداية لم أدرك هل هو صراخ صبي أم فتاة , التفت , فعلى بعد بضعة أمتار من السيارة ,رأيت شاب يبدو لي في الثلاثين من عمره يمسك بفتاة من شعرها ويدق رأسها بقوة في حديد التروسيكل الذي يستقله بضربات متتالية بلا هوادة وبلا أدنى رحمة , والقى بها على الأرض وإنهال عليها ضرباً , مردداً " انا هعرف أدفعك تمن الكلمة اللي قولتيها دي " , أخذت الفتاة تصرخ وتقول " خلاص هركب , هركب " ؛ وعندما بدأت سيارات المارة تتوقف وبدأت الناس تتجمهر , نادى الشاب بأعلى صوته " في حاجة يا رجالة " ؛ ولم يجرؤ أي احد على الإقتراب أو حتى السؤال , ولاحظت وجود ثلاثة صبية تتراوح أعمارهم ما بين 7 سنوات إلى 12 سنة يقفون حوله دون حراك يشاهدون ما يحدث بوجوه لا يبدو عليها أي إنطباعات "ماسك فيس " , وبجوارهم شاب في العقد الثاني من عمره وقد ارتسمت على وجهه إبتسامة مُرة , وعندما لاحظت الفتاة تجمهر الناس , خلعت جاكيت اسود كانت ترتديه فوق عباءة سوداء رثة , وصرخت " مش هركب , مش هركب " ؛ فما كان من الشاب إلا أن قام بقيادة التروسيكل وامسك بذراع الفتاة وسحلها وراءه , وتعالت صرخات الفتاة أكثر وأكثر حتى إختفت عن الأنظار , وبعد حوالي 5 دقائق , رأيتها عائدة تبكي وتستند على كتف ذلك الشاب صاحب الإبتسامة المُرة وأحضر لها كرسياً وأجلسها وظلت تبكي ساندةً رأسها عليه , وتجمع الناس حولها , فإقتربت منها وجدتها في 17 عشرة تقريباً من عمرها , ووجدت منظرها يوحي بأنها لم تعرف طريق النظافة منذ فترة طويلة , وعندما سألت رفيقها قال : "دة جوزها وهي حامل منه " ولم يوضح اي شئٍ آخر , وعندما سألت أحد الواقفين قال: " دي بنت مش تمام بتبات هنا في الميدان " ؛ وهنا عاد إلى ذهني مشهد لطفل بملابس رثة في نفس المكان طلب مني نصيبه من المال حتى يشتري طعاماً .. حسب ما أخبرني . وبسؤال العاملين بالمحلات في المنطقة صرحوا بأن ميدان المحطة هنا بمدينة المنصورة بمحافظة الدقهلية "محل الواقعة " أصبح مرتعاً لتجارة البرشام والمواد المخدرة وأطفال الشوارع , والعاملين بالصيدليات في النبتشيات الليلية "بيشوفوا بلاوي , وبأت على عينك يا تاجر بعد الثورة " .. على حد تعبيرهم . لكن لماذا انتشروا في هذا الميدان تحديداً هل لوجود عربات القطار , التي يتخذونها مأوى لهم , أم أن هناك سبب آخر ؟؟ ولفت نظري تواجد سيدة ترتدي ملابس رثة يتجمع حولها أطفال الشوارع في قلب الميدان يسرحون بقطع قماش بالية لتلميع السيارات بما أن الميدان يعد موقفا للعديد من السيارات , فتجلس هي في الميدان لينتشروا في الميدان ويروحوا ويجيئوا حولها بين الفينة والفينة . ولم أتعجب من رؤية طفل يبدو لي في 13 من عمره يدخن السجائر على الرصيف بالقرب من تلك السيدة . جدير بالذكر أن ميدان المحطة هو منطقة رئيسية في مدينة المنصورة عامرة بالمحلات والصيدليات والمقاهي والورش المفتوحة على مدار ال 24 ساعة , علاوة على وجود محطة القطار , ومع ذلك أصبح مرتعا لتجارة الأدوية المخدرة ومعقلا لأطفال الشوارع ,وكل ذلك يحدث على مرأى ومسمع من الجميع ؛ ولكن الميدان لم يكن كذلك منذ 30 عاماً فعلاوة على كونه مقر تجاري رئيسي فمحطة القطار كانت تجعله ميدان مزدحما طوال الوقت حينما كان القطار وسيلة الموصلات الرئيسية للطلبة والموظفين والمسافرين , وكان يتوسط قلب المحطة تمثال كبير شامخ للسيدة "أم كلثوم" لإستقبال رواد المنصورة , تم رفعه من موضعه إلى موضع آخر في شارع الجيش على بعد بضعة أمتار من مبنى محافظة الدقهلية , وكأن الوضع لم يرق لسيدة الغناء العربي هناك .. والآن كما خلا الميدان من السيدة " أم كلثوم" , خلا أيضا من رواده سوى قلة قليلة ممن يضطرون إلى إستخدام القطار. , وهذا يقودنا إلى زاوية أخرى في غاية الأهمية , وهي مشاركة أطفال الشوارع في أحداث الشغب والإشتباكات , فهؤلاء الأطفال مقابل الفتات نتيجة هذه الحياة الصعبة والظروف القاسية التي يعيشونها يصبحون لقمة سائغة لكل من يريد إستغلالهم والعبث بهم لتحقيق مآربهم الدنيئة . لانستطيع أن نجادل في كون هؤلاء ضحايا ولكن نخشى أن تتفاقم الأمور بمرور الوقت ليصبح المجتمع بأسره ضحايا الضحايا , خاصةً أن معظمهم يعاني أمراض نفسية يصعب علاجها , بسبب ما يتعرضون له يومياً من إعتداءات نفسية وجسدية وجنسية بشعة . وعلى جانبٍ آخر إذا كانت الإحصاءات تشير إلى أن عدد أطفال الشوارع في مصر تجاوز الثلاثة ملايين طفل منذ زمن , فهؤلاء الأطفال هم آباء وأمهات لأجيال جديدة من أطفال الشوارع , وهذا يعنى أن خلال بضع سنوات ستتضاعف تلك الأعداد , وسنصبح أمام أزمة كارثية , ستنفجر في وجوهنا جميعاً , في وقت سيصبح من الصعب جداً إن لم يكن من المستحيل علاج شظايا هذا الإنفجار المرعب . نحن لازلنا حتى الآن في مرحلة عنق الزجاجة بعد ثورتين , ولكن , لا يجوز أن نضع كل ملفاتنا المجتمعية على جنب في ركن من الأركان دون إجراءات وخطوات نحو الحل , المرحلة لاتحتمل حلول وإجراءات على التوالى , لابد أن تجري الإجراءات على التوازي , وألا تلهنا السياسة عن كوارث وقنابل موقوتة تعيش بيننا.