تابعنا جميعا على مدار الأيام الماضية الأزمة المفتعلة بين مجلس الدولة و هيئة النيابة الإدارية بخصوص اقتراح لجنة نظام الحكم بلجنة الخمسين بإنشاء هيئة قضائية جديدة تسمى القضاء التأديبي و يتولاها أعضاء النيابة الإدارية. و واقع الأمر أن إنشاء جهة قضائية جديدة هو الوصف المهذب لتلك المهزلة الدستورية التي تتلخص في محاولة سلب اختصاص أصيل لمجلس الدولة منذ نشأته عام 1946 و هو القضاء التأديبي، و قد فوجئت بكم الافتراءات و محاولات المتاجرة بالثورة و اللعب على وتر عاطفة المواطن التي تبنهاها القائمون على تلك البدعة المقترحة، و الواقع أن تفنيد تلك المزاعم سيكشف عن عدم جواز أن يتولى مروجوها سدة القضاء لما هو مفترض في القاضي من صدق و أمانة: 1) في مقدمة تلك المزاعم ما يدعيه أعضاء النيابة الإدارية من بطء التقاضي في منظومة القضاء المصري، و هو قول و إن صح بالنسبة للقضايا المدنية و الجنائية و الإدارية و غيرها، إلا أنه ليس له صدى بالنسبة للقضايا التأديبية، فالمعروض أمام القضاء التأديبي بمجلس الدولة من دعاوى خلال العام القضائي المنصرم يقارب الخمسة عشر ألف قضية، فُصل في ما يقرب من العشرة آلاف منها بواسطة 100 قاضي و تبقى منهم خمسة آلاف قضية فقط، و هو ما يتضح منه كذب تلك الإدعاءات خاصة إذا أدركنا أن حل مشكلة بطء التقاضي يكون عن طريق زيادة عدد القضاة المعينين و ليس عن طريق إسناد الفصل في تلك القضايا إلى غير قضاة لم يجلسوا قط على منصة القضاء، ذلك لأنه إذا كان للنيابة الإدارية دور مهم و جليل في مكافحة الفساد المالي و الإداري في الدولة قد يجاوز دور القضاء أهمية خاصة في دولة قامت لتوها من ثورة ضد الفساد ، إلا أنه ينبغى أن تلتزم النيابة الإدارية بذلك الدور و تعمل على تقويته لإحكام الرقابة على منابع الفساد التي استشرت خلال السنوات الماضية حتى ثار الشعب ضد هذا الفساد الذي لم يجد من يجتثه من منابعه. 2) إن القضاء التأديبي هو اختصاص أصيل لمجلس الدولة منذ عام 1946، مما أكسب قضاته خبرة كبيرة في الفصل في منازعاته على مدى 67 عاماً، في حين أن خبرة النيابة الإدارية تتلخص في التحقيق مع الموظف العمومي فقط ،فالخبرة في التحقيق تختلف تماماً عن الخبرة في الفصل في المنازعات، خاصة إذا أخذنا في الاعتبار أنه لا يجوز الجمع بين سلطة التحقيق و سلطة المحاكمة لما في ذلك من مخالفة للضمانات المقررة للمتهم من عدم جواز محاكمته من قبل من تولى التحقيق معه كوناً سيفتقد للحيادية لأنه سبق أن أبدى رأيا في موضوع الدعوى. 3) إن أعضاء النيابة الإدارية لا تتوافر بهم مقومات أعضاء السلطة القضائية من حيدة و استقلال تام عن السلطة التنفيذية مما يمنع التدخل في عملهم و العبث بأحكامهم لإرهاب الموظف العمومي إن تولوا القضاء التأديبي، فالنيابة الإدارية منذ إنشائها عام 1954 كانت تابعة لرئاسة مجلس الوزراء ثم أصبحث ملحقة برئاسة الجمهورية حتى عام 1989 إلى أن انتقلت تبعيتها إلى وزير العدل، أي أنهم أقرب للسلطة التنفيذية منهم للسلطة القضائية في قيامهم بمهام عملهم ، و لا يغير من ذلك تمتعهم بلفظ " هيئة قضائية" ذلك أن المحكمة الدستورية العليا في حكم شهير لها قضت بأن المشرع أصبغ على هيئتا النيابة الإدارية و قضايا الدولة صفة الهيئة القضائية ليس لكونهما يفصلان في القضايا و إنما تقديراً منه لدورهما بحكم اختصاصاتهما الوظيفية في الإسهام في سير العدالة. 4) إن المستقر عليه في الأنظمة القضائية العالمية أنها إما تأخذ بالنظام القضائي الموحد أو بالنظام القضائي المزدوج، و هنا في مصر نأخذ بالنظام الأخير مستلهمين أسسه من النظام القضائي الفرنسي ، فيوجد لدينا القضاء العادي و القضاء الإداري (مجلس الدولة) و الذي يشمل القضاء التأديبي، أما الاقتراح بإنشاء قضاء تأديبيي تتولاه النيابة الإدارية فيجعلنا أمام نظام جديد قد يُطلق عليه عالمياً " القضاء ثلاثي الأبعاد" ، فلا يوجد دولة (حتى من دول العالم الثالث) تفصل القضاء التأديبي عن القضاء الإداري و ذلك لكون المنازعة التأديبية منازعة إدارية بامتياز و ذلك لأنها في حقيقتها منازعة بين الفرد و الدولة ... فتلك البدعة المستحدثة قد تكون عقبة في استكمال خريطة الطريق و ما أكثر الشامتين و ستجعلنا أضحوكة أمام العالم و لا استغرب أن يُستهزأ بنا و يقال "يا أمة ضحكت من دستورها الأمم". 5) إن محاولة استقواء رجال النيابة الإدارية بالمرأة التي هي نصف المجتمع و ذلك لإيهام الرأي العام بأن تلك البدعة ستكون بمثابة طفرة للمرأة (كونها ستتولى منصة القضاء بما أن حوالي نصف أعضاء النيابة الإدارية من الإناث) هي محاولة بائسة و ذلك يتبين بجلاء عندما نعلم أنه منذ إنشاء النيابة الإدارية عام 1954 و حتى الآن لم يحدث قط أن تولت عضوة من النيابة الإدارية الإدعاء التأديبي أمام محاكم القضاء التأديبي بمجلس الدولة بل أن دورها انحصر في التحقيق فقط دون تمثيل النيابة الإدارية في تشكيل المحكمة، فإذا كانوا لم يثقوا بقدرة المرأة في تولي الإدعاء التأديبي، فكيف سيثقون في قدرتها لتولي "ولاية" القضاء، و كيف سيقيمون العدل بين المتقاضين إذا كانوا لحقوق المرأة سالبين، ففاقد العدل لا يعطيه. و أخيرا يجب التنويه بأن الدستور ليس مجالاً للموائمات السياسية أو وسيلة لكسب الاختصاصات، و ذلك بمنح هيئتين قانونيتين معاونتين في تحقيق العدالة كالنيابة الإدارية (التي تحقق مع الموظف العام في المخالفات التأديبية) و كهيئة قضايا الدولة (محامي الدولة) صفة "الهيئات القضائية" ،رغم أن صميم أعمالهما لا يتعلق بالفصل في خصومة أو منازعة، فالصالح العام يقتضي نزع الصفة القضائية عنهما و عدم النص عليهما بالدستور و إلا صار من العدل منح سائر العاملين في الشئون القانونية في المصالح و الجهات الحكومية لفظ "الهيئات القضائية". إن مجلس الدولة ظل منذ نشأته شوكة في ظهر كل حاكم مستبد أو نظام فاسد إذا جار على حقوق المواطن، و سيظل دائماً منبراً للحق والعدالة كما كان أمير المؤمنين الفاروق عمر بن الخطاب حتى قيل عنه " حَكَمت..فعَدلت.. فأمِنت..فنِمت ..ياعمر " ، فأخشى ما أخشاه أن تمس العدالة بسوء ، و لذلك أصيح قائلاً " استيقظ يا عمر ... العدالة في خطر"