اعتماد برنامجي علم الحيوان والبيوتكنولوجي والبيئة البحرية بكلية علوم جامعة قناة السويس    «الجبهة الوطنية» يطلق مؤتمرًا لريادة الأعمال ببورسعيد.. والمحافظ يشيد بدعم الشباب    وزارة الاتصالات تشارك في ملتقى «فرصة حياة» لدعم التمكين الرقمي للشباب    أكثر من 19 مليون طفل في الاتحاد الأوروبي معرضون لخطر الفقر والإقصاء الاجتماعي    «الجبهة»: حملات توعوية لتعزيز السلوك البيئي المستدام وتفعيل التعاون مع الجهات الحكومية    بعد استهداف ترامب هارفارد.. ما حدود تدخل الإدارة الأمريكية في حرية الجامعات؟    "فتح": قرار الاحتلال بالمصادقة على بناء 22 مستوطنة تحدٍ مباشر للقانون الدولي    عائلات الأسرى الإسرائيليين تطالب الحكومة بتفسير سياستها    «مفاجأة» حول تجديد عقد إمام عاشور مع الأهلي    إنفوجراف| بعثة القرعة تقدم إرشادات صحية لحجاجها قبل يوم عرفات ومنى    المشدد 7 سنوات لعامل خردة لحيازته سلاح ناري وإصابته سيدة ووفاتها بشبرا الخيمة    أحمد غزي عن «المشروع X»: مفيش حد أحسن مننا    عضو الحزب الجمهوري الأمريكي: إيران على استعداد لتوقيع أي اتفاق نووي لرفع العقوبات    مصطفى كامل يطرح أحدث أغانيه "كتاب مفتوح" | فيديو    الصور الأولى من حفل خطوبة مصطفي منصور و هايدي رفعت    «العقل لا يستوعب».. أول تعليق من أكرم توفيق بعد رحيله عن الأهلي    6 اختبارات منزلية لاكتشاف العسل المغشوش.. خُذ قطرة على إصبعك وسترى النتيجة    القبض على عامل خردة بتهمة قتل زوجته في الشرقية    «حماية المستهلك»: رقابة مشددة على الأسواق وزيارة 190 ألف منشأة وتحرير 44 ألف مخالفة    كلمات تهنئة للحجاج المغادرين لأداء فريضة الحج    أحمد السعدني عن حصد الأهلي لبطولة الدوري: "ربنا ما يقطعلنا عادة    الطريق إلي عرفات|حكم الجمع بين العقيقة والأضحية بنية واحدة    "السادات أنقذهم ومساجين بنوا الملعب ".. 25 صورة ترصد 120 سنة من تاريخ النادي الأولمبي    مطار سفنكس يستعد لاستقبال الوفود الرسمية المشاركة في افتتاح المتحف المصري الكبير    والدة غادة عبد الرحيم: يجب على الجميع توفير الحب لأبنائهم    خالد الجندي: لا يصح انتهاء الحياة الزوجية بالفضائح والانهيار    صدمته سيارة.. تشييع وكيل الإدارة العامة للمرور في مسقط رأسه بالمنوفية (صور)    قصور الثقافة تختتم عروض مسرح إقليم شرق الدلتا ب«موسم الدم»    "حقيقة المشروع وسبب العودة".. كامل أبو علي يتراجع عن استقالته من رئاسة المصري    تعليقًا على بناء 20 مستوطنة بالضفة.. بريطانيا: عقبة متعمدة أمام قيام دولة فلسطينية    الحكومة: استراتيجية لتوطين صناعة الحرير بمصر من خلال منهجية تطوير التكتلات    المطارات المصرية.. نموذج عالمي يكتب بأيادٍ وطنية    الإفتاء: توضح شروط صحة الأضحية وحكمها    أجمل ما يقال للحاج عند عودته من مكة بعد أداء المناسك.. عبارات ملهمة    ميلانيا ترامب تنفي شائعة رفض "هارفارد" لبارون: "لم يتقدم أصلاً"    تقارير: مانشستر سيتي يبدأ مفاوضات ضم ريان شرقي    إحباط تهريب صفقة مخدرات وأسلحة في نجع حمادي    رواتب مجزية ومزايا.. 600 فرصة عمل بمحطة الضبعة النووية    الوزير محمد عبد اللطيف يلتقي عددا من الطلاب المصريين بجامعة كامبريدج.. ويؤكد: نماذج مشرفة للدولة المصرية بالخارج    البورصة: تراجع رصيد شهادات الإيداع للبنك التجاري ومجموعة أي أف جي    رئيس جامعة بنها يتفقد سير الامتحانات بكلية الهندسة- صور    إنريكي في باريس.. سر 15 ألف يورو غيرت وجه سان جيرمان    مجلس حكماء المسلمين يدين انتهاكات الاحتلال بالقدس: استفزاز لمشاعر ملياري مسلم وتحريض خطير على الكراهية    يوم توظيفي لذوي همم للعمل بإحدى شركات صناعة الأغذية بالإسكندرية    حملات تفتيشية على محلات اللحوم والأسواق بمركز أخميم فى سوهاج    "قالوله يا كافر".. تفاصيل الهجوم على أحمد سعد قبل إزالة التاتو    نائب رئيس الوزراء: قصر العينى أقدم مدرسة طبية بالشرق الأوسط ونفخر بالانتماء له    الكرملين: أوكرانيا لم توافق بعد على عقد مفاوضات الاثنين المقبل    لندن تضغط على واشنطن لتسريع تنفيذ اتفاق تجارى بشأن السيارات والصلب    بالصور- وقفة احتجاجية لمحامين البحيرة اعتراضًا على زيادة الرسوم القضائية    الإسماعيلى ينتظر استلام القرض لتسديد الغرامات الدولية وفتح القيد    محافظ المنوفية يشهد استلام 2 طن لحوم كدفعة جديدة من صكوك الإطعام    استشاري أمراض باطنة يقدم 4 نصائح هامة لمرضى متلازمة القولون العصبي (فيديو)    الإحصاء: انخفاض نسبة المدخنين إلى 14.2% خلال 2023 - 2024    جامعة حلوان تواصل تأهيل كوادرها الإدارية بدورة متقدمة في الإشراف والتواصل    كل ما تريد معرفته عن سنن الأضحية وحكم حلق الشعر والأظافر للمضحي    وكيل وزارة الصحة بالإسماعيلية تتفقد انتظام سير العمل بوحدة طوسون    ماريسكا: عانينا أمام بيتيس بسبب احتفالنا المبالغ فيه أمام نوتينجهام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تبديل تاريخ.... وتزييف وعي (1-3)

بداية، تتعين الاشارة إلى أن تقديم الشكر لكل من أعضاء هيئتي النيابة الادارية وهيئة قضايا الدولة هو أمر واجب، على ما ألجئونا اليه، كقضاة بمجلس الدولة، لإعادة فتح أوراق المجلس القديمة وتاريخه العريق، وما ارتبط بذلك من أبحاث ومستندات ووثائق، حتى نتأكد من سلامة المعلومات التي يبثونها لدى الرأي العام في مسألة الهيئآت القضائية ووضع مجلس الدولة في الدستور الجديد للبلاد.
. يقول أعضاء هيئة قضايا الدولة (لجنة قضايا الحكومة- سابقا) أن مجلس الدولة هو الابن العاق لها !!! وقد توقفت قليلا عند هذا الوصف، وسألت نفسي - بغض النظر عن التزامه بحدود اللياقة المفترضة- هل فعلا مجلس الدولة هو ابن لهذه الهيئة؟؟ وهل هو عاق فعلا لهذا الشعب؟؟
. ولابد ان نعترف، قبل اي شيئ، ان ازمة الهيئات القضائية هي ازمة مفتعلة، شغلت حيزا أكبر من حجمها بكثير، وشغلت الجميع عن باقي مواد الدستور، مع أن الرجوع لأي متخصص منصف كان كافيا لهدم كل هذه المحاولات البائسة. ولكن لجنة الخمسين تصر على ان تبت في هذه المسالة الفنية المتخصصة بنفسها، ولذا ونحن إذ نعاونها على ذلك، فإننا نأمل ان يكون لديها ما يكفي من الصبر على تحصيل المعلومات اللازمة للبت في مثل تلك المسائل.
. ونستعرض في هذا المقال بعض الشبهات التي يثيرها أعضاء الهيئتين في حق مجلس الدولة، يغيرون بها الثابت من وقائع التاريخ وصولا لاهداف اقرب الى ان تكون اهدافا فئوية يغلب عليها المصلحة الخاصة الضيقة، وانبه قارئي الكريم بداية أن هذا المقال ذا طبيعة متخصصة، لذا فالعذر كل العذر للقارئ على هذه السطور ، التي يبدو انها ستكون ثقيلة بعض الشيئ، لكنها لازمة وضرورية للفهم والحكم.
. وللانصاف فقد اعتمدنا في ردنا على هذه الشبهات بما كتبه اعضاء هيئة قضايا الدولة بايديهم مثل الدكتور عبدالحميد بدوي (باشا) رئيس قلم قضايا الحكومة الاسبق، وغيره من الكتاب من اعضاء هيئة قضايا الدولة ممن كتبوا كتابات يسهل الرجوع لها، حتى لا يكون هناك شبهة في الانحياز لفكرة او لكاتب، وحتى يكون قد تحقق القول بان شهد شاهد من أهلها. وكذلك اعتمادنا على بعض الوثائق مثل المذكرة الايضاحية لمشروع قانون انشاء مجلس الدولة من مضابط مجلس الشيوخ.
. وتقول الهيئتان في اهم تلك الشبهات المثارة والتي تستحق عناء الرد، أن مجلس الدولة حديث النشأة. فلم ينشأ الا عام 1946، وان اختصاصات المجلس اقتطعت من كل من المحاكم العادية وهيئة قضايا الدولة. وان القضاء العادي او هيئة قضايا الدولة لم تقف اي منهما في وجه التطور والاصلاح القضائي والا لما كان قد ظهر مجلس الدولة للوجود.
. ونخصص هذا الجزء الاول من هذه الثلاثية لتفنيد الادعاءات المتعلقة بهيئة قضايا الدولة ، عن لعب دور الابوة المزعومة لمجلس الدولة ، والزعم باقتتطاع سلطاته من المحاكم العادية التي لم تعترض على ذلك في وقتها، وهو ما تتخذه هيئة قضايا الدولة الان ذريعة لسلب الاختصاص الافتائي لمجلس الدولة او جزء منه.
إنشاء مجلس الدولة في مصر ، هل كان عام 1946؟؟
وهل اقتطعت اختصاصاته بالفعل من هيئة قضايا الدولة ؟؟؟
أنشئ مجلس الدولة (الحالي) بالقانون رقم 112 لسنة 1946 (أي منذ 67 عاما)، ولكن هذه النشأة جاءت نشأة مكتملة، حيث اعطي سلطات القضاء الاداري والافتاء القانوني والمراجعة التشريعية، محاكيا مجلس الدولة الفرنسي في آخر اطوار نموه. الذي نشأ ضعيفا محدود السلطات ثم راح يقوى تدريجيا وتتسع سلطاته. وكانت هذه النشأة المكتملة لمجلس الدولة المصري نتاج مراحل واحداث سبقتها ادت الى ذلك، وهنا يكون من الاهمية بمكان ذكر بعض الوقائع التاريخية التي لها وجه دلالة فيما يثار من شبهات.
اولا: نشاة هيئة قضايا الدولة:
. كانت مصر في الربع الاخير من القرن التاسع عشر خاضعة لولاية الدولة العثمانية وتتصارعها مصالح الدول الاستعمارية الاخرى، وانشئت المحاكم المختلطة في مصر عام 1875 باتفاقيات دولية تضمنت امتيازات لرعايا الدول الاجنبية من ضمنها عدم خضوعهم للاختصاص القضائي لاي محكمة مصرية .
. وكان إنشاء هيئة قضايا الدولة عام 1876 بمسمى ]لجنة قضايا الحكومة[، كرد فعل على خضوع الدولة المصرية لاختصاص تلك المحاكم المختلطة التي اهدرت السيادة المصرية على ارضها، وراحت المحاكم المختلطة تضرب الحكومة المصرية باحكام قضائية تتضمن تعويضات فادحة لصالح الرعايا الاجانب ضد الحكومة سواء بحق او بغير حق ، وكانت لجنة قضايا الحكومة لجنة مؤقتة يتم التعاقد مع مستشاريها لمدة خمس سنين وكانوا من الاجانب.
. ثم صدر قرار بجعلها لجنة دائمة بعدما ازدادت وطأة احكام التعويضات التي كان يحكم بها قضاة المحاكم المختلطة لصالح رعاياهم الاجانب. ولم يكن لها اي اختصاص آخر سوى تمثيل الحكومة امام تلك المحاكم. وفي عام 1880 تم إعادة تنظيمها بأمر عال حدد أقسامها واختصاصاتها على نحو واضح ولم تكن فيه اختصاصات اوكلت لها الا متابعة القضايا.
ثانيا: مجلس شورى الحكومة عام 1879:
. يظن كثيرون أن أول إنشاء لمجلس الدولة كان بالقانون رقم112 لسنة 1946، وهذا غير صحيح، فالثابت تاريخيا أن أول إنشاء لمجلس الدولة ، كان في عام 1879 بالأمر العالي الصادر من الخديوي إسماعيل، في 23 إبريل، بإنشاء ما يسمى ]مجلس شورى الحكومة [.
. و(مجلس شورى الحكومة) Conseil d'Etat المشار اليه، كان مجلس الدولة في صورته الحالية، ولكن مع بعض الاختلاف في التشكيل والاختصاصات، اذ في 23 من شهر إبريل عام 1879 صدر امر عال كتب باللغة الفرنسية بإنشاء ما سُمّى بمجلس شورى الحكومة، وُقّع عليه بالحروف اللاتينية كل من محمد شريف (باشا) رئيس الوزراء آنذاك والخديوي إسماعيل .
. و نص الأمر العالي على تشكيل مجلس شورى الحكومة من: رئيس، ووكيلين أجنبيين، وثمانية مستشارين أربعة من المواطنين، وأربعة من الأجانب ومن أربعة نواب للعرائض.
. وتضمن الأمر أن يكون تعيين اعضاء مجلس شورى الحكومة بأمر الخديوي. ولا يجوز عزلهم إلا بقرار يصدر من الجمعية العمومية للمجلس في الأحوال التي ترد بلائحته، ويكون رئيس المجلس هو رئيس مجلس الوزراء (مثل مجلس الدولة الفرنسي) ، وللخديوي دعوة المجلس تحت رئاسته عند اللزوم، ويكون لوكيلي المجلس حضور مجلس النظار (الوزراء)، ويكون لهما رأي قطعي فيه وذلك في الأحوال التي يطلبان فيها .
. أما من حيث الاختصاصات، فكانت الاتي:
. تقديم المشورة وجوبيا في جميع مشروعات القوانين .
. الفصل بناء على طلب الخديوي أو طلب نظار الدواوين في جميع المشاكل التي تحدث سواء بخصوص الوظائف المكلفين بها قانونا أو بحسب اللوائح، أو تلك المشاكل التي تتعلق بتنفيذ القوانين والإجراءات حسب نصوصها .
. النظر في إجراءات الموظفين التي يحال النظر فيها إليه .
. الحكم البات في المنازعات المتعلقة بالأمور الإدارية .
. النظر في سير وسلوك احد الموظفين.
. بل إن اللافت للنظر ، انه ورد أيضا في ذلك الأمر العالي ذكر شيء من نظرية أعمال السيادة، بما نص عليه من استبعاد بعض المسائل من ولاية مجلس شورى الحكومة، وهي :
. ما يصير اتخاذه من الاحتياطات لمصلحة عمومية أو للنظام العام
. قرارات الضبط والربط
. تنصيب وعزل الموظفين الجائز عزلهم
. لائحة ترتيب المصالح الحكومية
. ما يدخل في ولاية المحاكم المدنية والشرعية أو المحاكم المختلطة .
. وقد تضمن الأمر العالي أن اللغات المعتمدة أمام مجلس شورى الحكومة والتي تكون مقبولة أمامه هي اللغات المقبولة أمام المحاكم المختلطة .
. وواضح جدا من هذا الاستعراض اننا كنا أمام مجلس دولة مكتمل الاختصاصات تشريعا وافتاء وقضاء (اداري وتاديبي)، وعموما، فقد صدر الأمر العالي هذا بمبادرة مصرية من وزارة شريف باشا، ورغم انه كان فيها بعض التحيز للأجانب في التشكيل إلا أنها كانت فكرة مصرية خالصة، وكان الإنجليز متمسكين بتغيير الوزارة، وانتهى الأمر بتعطيل الإنجليز عام 1880 لهذا المجلس باصدار قانون يسمى قانون التصفية عام 1880 الذي خصص نصف ايراد مصر لسداد ديونها، وهو ما استتبع النظر في تقليص عدد الهيئات العامة الموجودة ، فتم وقف العمل بالامر العالي الصادر بتشكيل مجلس شورى الحكومة.
. وكان اقصى ما كانت تسمح به مصلحة الدولة صاحبة الامتيازات هو انشاء لجنة للدفاع عن الادارة المصرية امام المحاكم المختلطة (لجنة قضايا الحكومة) والتي كان معظم تشكيلها من الاجانب، بعد ان راح رعايا الدول الاجنبية المقيمين في مصر يرفعون سيلاً هادراً من قضايا التعويضات ضد الحكومة المصرية، والتي كانت تستجيب لها المحاكم المختلطة بقضاتها الاجانب بافراط شديد، وهو ما زاد من مديونية مصر في ذلك الوقت اكثر واكثر.
. يؤكد هذه الحقيقة ، ما جاء بتقرير اللجنة المشكلة عام 1867 بوزارة الخارجية الفرنسية لدراسة مشروع الاصلاح القضائي المصري، وما قرره مندوب فرنسا في اللجنة الدولية التي انعقدت في مصر لانشاء المحاكم المختلطة حيث ذكر (من المهم جدا ان تكون الحكومة المصرية خاضعة للقضاء المختلط في المنازعات التي تقوم بينها وبين الاجانب لتسري عليها احكام القانون الاوروبي العام، وانه بهذه الوسيلة نكون قد قضينا على الحالة الشاذة التي تكون فيها الحكومة المصرية خصما وحكما في الدعاوى التي يرفعها الاجانب عليها)
. وهذا هو سبب فشل الامر العالي الصادر عام 1879، بانشاء مجلس شورى الحكومة الذي حرصت من خلاله الحكومة على بسط سيادتها القانونية على أرضيها، في حين حرصت الدول الاجنبية صاحبة المصلحة على خضوع المنازعات الادارية لاختصاص المحاكم المختلطة التي تحكم وفق ما يحقق مصالحها ومصالح رعاياها.
ثالثا: مجلس شورى الحكومة 1883:
. بعد الاحتلال البريطاني لمصر عادت فكرة مجلس الدولة للظهور، فصدر الامر العالي في 1/5/1883 بالقانون النظامي المكون للدولة المصرية، وكان من ضمن هذه الاجهزة (مجلس شورى الحكومة في مادة 46) للمرة الثانية، لكن القانون عندما اتى على تنظيم مجلس شورى الحكومة، فقد احال الى امر عال يصدر لاحقا يبين اختصاصاته وتشكيله ، وصدر هذا الامر العالي فيما بعد بتاريخ 22/9/1883، واعطيت له اختصاصات الفتوى والتشريع ولم تدرج له اختصاصات قضائية، لان بريطانيا كانت ترتب لتثبيت اوضاع هيمنتها على مصر بعد احتلالها فكانت لا تريد رقابة قضائية على اعمال السلطة التنفيذية لغير المحاكم المختلطة. لان ذلك لا يتفق مع مصالحها.
. وبحسب هذا الامر العالي، حَلّ مجلس شورى الحكومة محل لجنة قضايا الحكومة في قدر كبير من اختصاصها، لكن وزارة الخارجية البريطانية اعترضت على هذا النظام الجديد لاسباب تتعلق بتشكيله، ونجحت بالفعل في وقف العمل به في 13/2/1884، ولما لم تجد الحكومة بُد من ايجاد جهة تقوم بهذه المهام، فقد اسندت مهمة الافتاء القانوني للجنة قضايا الحكومة بعد وقف العمل بمجلس شورى الدولة.
. ولقد قامت لجنة قضايا الحكومة بمهام الفتوى جنبا الى جنب مع مهام تمثيل الحكومة أمام المحاكم المختلطة، وقد ترتب على وقف العمل بمجلس شورى الدولة اختلال العملية التشريعية من الناحية الفنية لاصدار القوانين واللوائح، وقد نصت المادة الثانية من الامر العالي الاخير بتعيين احد المستشارين اعضاء اللجنة للقيام بالعمل التشريعي وألحق بمجلس النظار (الوزراء).
. ويذكر المرحوم الدكتور عبدالحميد بدوي (باشا) رئيس قلم قضايا الحكومة في مقاله المنشور بالعدد الاول بمجلة مجلس الدولة بعنوان: تحول لجنة قضايا الحكومة الى مجلس دولة انه : (لم يمض اكثر من شهرين حتى ناء ذلك المستشار بعمله حتى اعيد تنظيم القسم التشريعي بالحاقه بلجنة قضايا الحكومة). فاعيد تنظيم اقسام قضايا الحكومة وبه انشئت اللجنة الاستشارية التشريعية. وهي صورة متواضعة للمعنى المتحقق لقسم التشريع بمجلس الدولة.
.
. وتذكر المذكرة الايضاحية لمشروع قانون مجلس الدولة ما نصه ان (قسم القضايا بازدياد اختصاصاته في مادة الاراء يوما فيوم حتى اصبح في الواقع يقوم بالجزء الاكبر من الاختصاصات التي كانت مقررة لقسم الادارة في مجلس الدولة القديم).
. وإزاء صعوبة إنشاء مجلس الدولة على النحو الذي ترتضيه الادارة المصرية لاعتراض الدول الاجنبية، فقد اوكلت في عام 1923 بالقانون رقم 1 الى قلم قضايا الحكومة مهام الافتاء القانوني وصياغة العقود ومشروعات القوانين والوثائق الحكومية، وان تنوب عن الحكومة والمصالح العمومية امام المحاكم على اختلاف انواعها ودرجاتها التي كانت مقررة للجنة بجانب مجلس شورى الحكومة. وفي هذا القانون، أصبح لاول مرة واجبا على المصالح العمومية استفتاء قضايا الحكومة في شئون معينة (كل عقد او صلح او تحكيم او تنفيذ قرار محكمين في امر تزيد قيمته على خمسة الاف جنيه).
. وبابرام معاهدة مونترو عام 1937 الخاصة بالغاء الامتيازات الاجنبية ، بدأ التفكير جديا في انشاء مجلس دولة باختصاصات قضائية، اذ نصت المعاهدة على جواز ان يتقاضى الاجنبي امام محاكم غير المحاكم المختلطة، وهو ما سمح بالتفكير جديا في انشاء مجلس دولة لاسيما مع ما بلغته البلاد من تقدم النظام السياسي والاداري في تلك السنوات.
. وكتب المرحوم المستشار وليم سليمان قلاده في مجلة مجلس الدولة ان : "وجود مجلس الدولة او عدم وجوده يعبر عن المرحلة التي وصل اليها النضال الوطني والتطور في بناء النظام القانوني للدولة، ففي حين كانت السيادة التشريعية على جميع المقيمين فيها غير مكتملة، ومع وجود الامتيازات الاجنبية والسيطرة البريطانية امتنع انشاء مجلس الدولة، اذ لم تكن تسمح هذه الدولة ببسط القضاء الوطني رقابته على عمل السلطة التنفيذية التي كان يتحكم بها."
. وذكر سيادته في كلمة جامعة : (ان مجلس الدولة في ضوء الدراسات التاريخية هو تعبير عن سيادة الوطن وسيادة الفرد والمواطن، ومقتضى انشاؤه عدم خضوع اي من المؤسسات الوطنية الا للارادة الشعبية العامة التي تحترم الصالح العام والصالح الفردي معا)
. ولعل رجال مصر المخلصين الاوفياء النابهين من أمثال المستشار الدكتور عبدالحميد بدوي (باشا)، ممن ادركوا كل هذه الحقائق، فكان هو من تقدم بمشروع القانون الخاص بانشاء مجلس الدولة عام 1939، ادراكا منه لاهمية هذا الجهاز في استقلال الارادة الوطنية وتحقيق متطلبات سيادة القانون وحماية الفرد وحماية الادارة والمواطن على السواء.
. وقد كتب الدكتور عبدالحميد بدوي (باشا) في المقال المذكور انه: (كلما بلغ النظام الاداري في دولة درجة من التقدم وتعددت القوانين وتشعبت وكثر عدد رجال الحكم ودقت اعمالهم كثر احتمال وقوع الخطأ وارتكاب المساوئ في تطبيق القوانين، وقوي الشعور بعدم كفاية الالتجاء الى المحاكم العادية للحصول على التعويضات، كلما زادت الحاجة الى وجود هيئة ترفع لها الظلامات لتصحح هذه الاخطاء وتقضي على تلك المساوئ، وبعد فان وجود هذه الهيئة في ذاته كفيل بمنع قدر كبير من تلك المساوئ والاخطاء وهذه الهيئة هي التي تعرف باسم مجلس الدولة)
. وشكلت لمناقشة مشروع انشاء مجلس دولة لجنة وزارية على مستوى عال، لكن المشروع توقف لأن بدوي (باشا)- رحمه الله كان يريد انشاء المجلس بصلاحيات مكتملة منذ البداية، على عكس مجلس الدولة الفرنسي الذي حصل على صلاحياته تدريجيا، وله ظروف نشأة مختلفة عن ظروف مجلس الدولة المصري، فاختلف معه بشدة الدكتور محمد حسين هيكل (باشا) وزير المعارف وقتها، والذي رفض ذلك بشدة، وقال انه: (يحسن ان ننشئ مجلس دولة لمواجهة شكايات الموظفين فقط، وندع الجمهور يقدر بنفسه بعد الاطلاع على احكام المجلس اذا كان الخير في توسيع اختصاصاته). ثم توقف المشروع بعدها بسبب اندلاع الحرب العالمية الثانية.
. وذكر المستشار قلادة في المقال المشار اليه: (انه بعد إنشاء مجلس الدولة عام 1946، فان علاقته بالادارة في الاربعنيات كانت متوترة بسبب الصراعات الحزبية المستعرة، فهو لم ينشأ في احضانها شان مجلس الدولة الفرنسي، وليس له ماض في التعامل الوثيق بالادارة يجعلها تطمئن الى تصرفاته، كما انه ليس تابعا لها من الناحية الواقعية، بل ان عمله في القضاء والفتوى والتشريع يضع الادارة تحت رقابة قوية لعلها اقوى من رقابة البرلمان، فالمجلس يغوص في ملفات الادارة، ويكشف المستور من مشروعاتها ونواياها، ويسلط عليها رقابته كي يحول دون مخالفة القانون او الانحراف بالسلطة.)
. وبناء على ما تقدم، يمكن ان نخلص من هذا السرد التاريخي الى النتائج الاتية :
. انشئ مجلس الدولة لاول مرة عام 1879 بختصاصات قضائية وتشريعية وافتائية، وكان يسمى (مجلس شورى الحكومة) ، ثم الغي هذا الجهاز مع تطبيق قانون التصفية عام 1880 ، ثم عاد للظهور مرة اخرى عام 1883، وصدر تنظيمه الامر عال بتاريخ 22/9/1883، واعطيت له اختصاصات الفتوى والتشريع ولم تدرج له اختصاصات قضائية لتعارض ذلك مع مصالح الدول الاجنبية.
. ان قلم قضايا الحكومة انشئ عام 1876 كرد فعل على انشاء المحاكم المختلطة ، وكانت نشأته الدائمة في عام 1884، من إدارتين قانونيتين ثم ثلاثة (1912) لتمثيل الحكومة امام المحاكم ومتابعة القضايا فقط، في ظل وجود مجلس شورى الحكومة الذي كان مختصا بالافتاء والصياغة التشريعية.
. ان اول اختصاص أعطي لقلم قضايا الحكومة بالإفتاء القانوني الوجوبي في العقود كان عام 1923، وكان الاختصاص بالافتاء القانوني مقررا لمجلس شورى الحكومة المنشأ عام 1883 الذي هو في حقيقته مجلس دولة.
. ان قلم قضايا الحكومة كان تابعا في القانون رقم 1 لسنة 1923 لوزارة المالية، بعد ان كان تابعا لوزير الحقانية عندما كان في صورة لجنة مؤقتة. ولهذا دلالة كبيرة.
. انه سبق انشاء مجلس الدولة المصري في عام 1946، تقديم مشروعات قوانين بانشائه في اعوام 1939، 1941، لم يكتب لها النجاح بسبب الصراعات السياسية ، وكتب لها النجاح في عام 1946.
. قام قلم قضايا الحكومة بمهامه الافتائية بمراجعة العقود لمدة 23 سنة (1923-1946)، ثم نقلت هذه الاختصاصات الى مجلس الدولة إيمانا من المشرع بان الاقدر على ابداء الراي القانوني المنضبط المحايد الذي يراعي مصالح الاطراف جميعا هو الراي الصادر من القاضي، وليس الصادر من المحامي الذي تكون شبه انحيازه لاحد طرفي الخصومة قائمة بكل تأكيد.
هل اقتطعت اختصاصات مجلس الدولة بالفصل في المنازعات الادارية من محاكم القضاء العادي؟؟
. ذكر بعض اعضاء هيئة النيابة الادارية وقضايا الدولة، أنه لولا اقتطاع اختصاصات من المحاكم صاحبة الولاية العامة (القضاء العادي) وهيئة قضايا الدولة لما نشأ مجلس الدولة. وقد قمنا بالرد على مسالة هيئة قضايا الدولة ، فماذا عن اختصاص القضائي العادي؟؟ هل بالفهل كان الاختصاص بنظر المنازعات الادارية منعقا للمحاكم العادية ؟؟
بالنسبة لاختصاصات القضاء العادي:
ونستعين في الرد على هذه الشبه بقول للأستاذ الدكتور حافظ محمد إبراهيم، (المحامي الأول بإدارة قضايا الحكومة(، في مقاله المنشور بمجلة المحاماة (العدد التاسع بمجلة محاماة مصر الشهيرة سنة 1948) بما نصه: "كان إنشاء مجلس الدولة تحقيقًا لأمنية طالما تطلع إليها الناس أفرادًا وموظفين، لكي يكون لهم منه ما يؤمنهم من تجاوز السلطة الإدارية حدودها ويصون لهم حقوقهم قبلها ويجعل كلمة القانون هي العليا في علاقاتهم بها".
ويضيف سيادته: "لم يكن أحد قبل العمل بقانون إنشاء مجلس الدولة يستطيع الالتجاء إلى المحاكم المدنية بطلب إلغاء القرارات الإدارية لمجاوزة السلطة بل كان كل ما يستطاع هو مطالبة جهة الإدارة بالتضمينات (التعويضات) عما يقع من الضرر المترتب على القرار الإداري إذا وقع مخالفًا للقوانين أو اللوائح، ولم يكن لتلك المحاكم إلا أن تقضي بالتعويض على الحكومة دون أن تتعرض للقرار بالإلغاء أو التعديل أو الوقف أو التأويل مهما كان فيه من مخالفة للقوانين أو اللوائح في الشكل أو في الموضوع
اذ لم يكن للأفراد أو الموظفين قبل صدور قانون مجلس الدولة حق في الطعن على القرارات الإدارية لتجاوز السلطة، ولم يكن اختصاص المحاكم المدنية بالحكم في دعاوى التعويض التي ترفع على الحكومة بسبب تلك القرارات المخالفة للقوانين أو اللوائح - وهي ما يستتبع حتمًا التعرض لها - ليصح الاستناد إليه في القول بوجود هذا الحق قبل إنشاء مجلس الدولة، لأن دعوى المطالبة بالتعويض إنما تقوم على مسؤولية الجهات الإدارية في تعويض الضرر الذي يحصل للغير من صدور هذه الأوامر أو من تنفيذها وأنه يشترط لقبولها حصول ضرر فعلي مباشر لمن صدر أو تنفذ ضده الأمر، ولأن المحاكم الوطنية لا تقضي إلا بالتعويض دون التعرض للأوامر الإدارية أو المساس بها فتبقى لها حصانتها الإدارية وحكمها في التعويض لا يحوز قوة الشيء المقضي به إلا بين طرفيه.
وهكذا لم يكن للمحاكم المدنية على أية حال أن تلغي القرارات أو الأوامر الإدارية وكل ما في مكنتها هو ألا تأخذ بها لمخالفتها للقوانين كما أن حكمها حتى في ذلك لا يكتسب حجية إلا بين طرفيه.
فلما صدر قانون مجلس الدولة وأنشأ حق الطعن القضائي على القرارات الإدارية أوجد بذلك (حالة قانونية جديدة لم تكن موجودة من قبل) من شأنها تخويل الأفراد والموظفين الحق في مخاصمة هذه القرارات وطلب إلغائها إذا شابها عيب من عيوب تجاوز حدود السلطة، وأسبغ هذا القانون على محكمة القضاء الإداري نوعًا من الرقابة على أعمال السلطة الإدارية دون أن تغير هذه الرقابة من كيانها وخصائصها كجهة للقضاء العادي في المسائل الإدارية).
ولم اجد في نهاية مقالي هذا ما اختم به أفضل مما كتبه المرحوم عبد الحميد بدوي (باشا) في بداية مقاله القيم المشار اليه، الذي اسوقه دفاعا عن الحق والمصلحة العامة، لا تحيزا لفئة او جهة، والله مطلع على سرائر النفوس وما تخفي الصدور، ، حيث قال:
(لم يكن انشاء مجلس الدولة ونقل عمل لجنة قضايا الحكومة له مجرد تشبه بصورة فضلى مما جاءت به المثل القانونية، او رغبة في اتمام محاكاة النظم الفرنسوية التي درج الشارع التركي منذ بدء عهد "التنظيمات" على الاخذ عنها، بل كان احقاقا لابد منه لكلمة القانون Rule of Law فيما يتصل بعلاقات الحكومة بالافراد او الموظفين. وعملا آن اوانه على تحقيق صورة من التربية السياسية، تقوم على تنبيه الناس لحقوقهم وتمكينهم من اقتضائها على الوجه الامثل. بل خاتمة لسيرة تاريخية طويلة جاءت في ميعادها المرسوم ولعلها تأخرت عنه قليلا. ولم تخل تلك المسيرة من الطرافة أو المفاجآت، فقد ترددت بين الانشاء والإلغاء، والطفرة والتدرج، والتوسيع والتضييق، وانتهت الى نظام لم تزل تُعمَل فيه يد النقض والتعديل، لتكييفه بما يتفق وصور الحياة المصرية، وما تجري به أصول الحكم، ونزعات السلطان، وموافقات العمل، ولن تزال كذلك حتى يستقيم الامر ويصير الى وضع مرضي.)
خلاصة:
. يتضح من خلال ما تقدم، ان الابوة المزعومة للجنة قضايا الحكومة على مجلس الدولة هي في حقيقتها علاقة توازي و ندية، فالاجهزة متزامنة في نشأتها، والعراقيل كانت توضع في طريق انشاء مجلس الدولة، وكانت معركة انشائه كجهاز قضائي متخصص هي معركة استقلال للارادة الوطنية، حالت دون انفاذها او استمرارها ارادة الدول الاجنبية المستعمرة، فانشئ المجلس عام 1879 ثم الغي، ثم اعيد انشاؤه عام 1883 ثم الغي، وحاولت الاطراف الوطنية ومنهم رجال من هيئة قضايا الدولة إعادة إنشائه في عامي 1939 ، 1941، ولم ير المجلس النور إلا عام 1946.
. كما يتضح أيضا أنه بإنشاء مجلس الدولة المصري وتقرير حق الطعن القضائي على القرارات الإدارية فقد أوجِدَت بذلك حالة قانونية جديدة لم تكن موجودة من قبل ولم تكن هذه الاختصاصات متاحة للمحاكم العادية قبل نشاء مجلس الدولة اذ لم يكن لا منها الحق في نظر مشروعية القرارات الادارية.
ولعل هذا كله مما يفسر كلمة الدكتور السنهوري (باشا) عن مجلس الدولة، التي لم نعلم مدلولها إلا بعد أن اطلعنا على تاريخ انشاء المجلس، حيث قال رحمه الله : أن مجلس الدولة قد يبطئ سيره ، وقد يتعثر فى خطاه ، وقد يتراجع خطوة ، ولكنه سيقوى وسيواصل المسير.
والحمد لله رب العالمين
يتبع.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.