من المفروض أن أبدأ هذا المقال بمقدمة سخيفة تتعلق بأولويات المجتمع والحكومة والأمة ، أحاول فيها أن أظهر قدرا لا بأس به من الثقافة الرياضية - ولا سيما الكروية - لكي لا يظنَّ ظانٌّ أنني- لا قدَّرَ الله - من أعداء الرياضة أو كرة القدم، ولكني لن أبدأ بهذه المقدمة السخيفة ، لا لشيء سوي لسخافتها ...! أقول بدون مقدمات لقد أصبحت كرة القدم مخدرا حقيقيا للشعب المصري، بدون أي مبالغةٍ أو تجنٍ، وأصبح النظام الحاكم يجيد استغلال كرة القدم سياسيا ! بالكرة ... بالكرة فقط ... يسْمَحُ للناس أن يمارسوا حب مصر ، أما أن يسْمَحَ بحب مصر بالعمل المتقن ، أو بمشروع سياسي ، أو اقتصادي ، أو خيري ، أو ثقافي ، أوبخوض انتخابات من أي نوع... هنا تنهال تهم الخيانة والعمالة والفساد والإفساد والرغبة في (الاستيلاء) علي الحكم! ما زلت أذكر - ولن أنسي ما حييت - كيف تواطأ الناس علي أنفسهم في شتاء عام 2006 م ، حيث أسكتوا أصوات ألف غريق غرقت بهم عبارة السلام 98 ، كي لا تُفْسِدَ أصواتُ الغرقي متعةَ انتصارٍ كروي في بطولة قارية تافهة ...! لقد كانت لحظة عارٍ مركب ، اشترك فيها الحاكم والمحكوم ، والظالم والمظلوم ، والقاتل والقتيل ، والمجرم والبريء ! لقد أصبحت (الإنجازات) الكروية مبررا لاستمرار النظام ، وأصبحت تأخذ أكبر من حجمها ، وكأن هذا النظام مهمته أن يصنع منتخبا كرويا ، لا أن يكون هو -أي النظام - منتخبا من الناس...! أستمع أحيانا إلي المعلقين الرياضيين و هم يدعون الله قبل بدء مباراة، فأشعر من دعائهم بأن جيش مصر علي الجبهة ...! وأسمع صرخات فرحة النصر فأشعر بأن الرئيس تنحي ...! وأسمع لعنات الهزيمة - وهي شيء لو تسمعون بذئ - فأظن السب و اللعن موجهين إلي جيش يحتل أرضنا ...! وتستمر المهزلة ، يتابع الناس عبر عشرات الفضائيات الدوري المصري ، والسعودي،و الجزائري ، والمغربي ...الخ كما يتابعون الدوري الإنجليزي، والإسباني، والإيطالي، والبرازيلي، والأرجنتيني، ولكل شخص ناديه المفضل في كل دولة من هذه الدول ، و لاعبه المفضل في كل ناد من هذه الأندية، ومدربه المفضل ، وحارس المرمي المفضل ... إلخ ثم بعد ذلك تتابع الناس (كئوس العالم) ، للناشئين و الشباب والكبار ، وتبدأ المتابعة بمباريات التصفيات قبل البطولة نفسها بعامين أو أكثر ...! ثم بعد ذلك (كئوس القارات) ، ولا ننسي متابعة تصفيات هذه الكئوس ...! ثم يتابع الناس البطولات القارية المخصصة للأندية ، وهم من خلال كل ذلك يتابعون: 1 - صفقات انتقال اللاعبين المحليين و الدوليين والمدربين . 2 - فضائح اللاعبين مع نجمات السينما ، وما تيسر من أشكال البذخ والانحراف. 3 - تحليلات المباريات في الصحافة والتليفزيون ، بحيث لا يكتفي المشاهد بمشاهدة المباراة، بل يشاهد تحليلا لها و نقدا ...! وبعد كل ذلك لا نكتفي بما نتابعه، بل نجلس أمام الشاشات لنلعب مباريات كرة قدم "افتراضية" بين فرق العالم المختلفة، في لعبة سخيفة تأكل وقت الناشئة أكلا ، وتسفه أحلامهم في الحياة تسفيها لا نظير له ...! لا مساحة للعمل الجاد وسط هذا الغثاء ...! لو أحصينا كم ينفق الناس من أوقاتهم علي هذا الهذر، لعرفنا أننا ضحية "فيروس" خطير يفتك بعقول شبابنا وبناتنا . وفي نهاية الأمر ... ورغم أن شرعية النظام أصبحت " شرعية كروية"، إلا أنه يفشل في تحقيق إنجازات كروية أيضا، فبعد ما يقرب من ثلاثة عقود علي أنفاسنا ، نجد كمية البطولات قليلة جدا ، إذا قورنت بدولة كالسعودية أو المغرب أو العراق...! وليس ذلك بغريب ... لأن الاستبداد يسبب كل أشكال الانحطاط ... حتي في الكرة ...! لا أخفيك سرا - قارئي الكريم - أصبحت بمرور الوقت أكره أن يفوز المنتخب في أي مباراة أو بطولة! أكتب هذه المقالة وأنا أتمني حين يقرأها القارئ ألا نكون قد تأهلنا لكأس العالم ...! وإذا وصلنا ... فسوف تُجْري انتخاباتُ مجلس الشعب (بالصدفة) في ذروة اشتعال مبارياتنا في كأس العالم ...! تذكروا ذلك يا أهل مصر ..! عبدالرحمن يوسف