تعالوا نتأمل حال مصر والمصريين في المرحلة الراهنة.. التي أصبح اليأس والقهروالفساد والتدهور المستمر طابعها العام.. إن حال الأمة المصرية يحدثنا بالكثير، فإذا حاولنا أن نلتقط بعض الملامح العامة.. دون الإغراق في التفاصيل.. نلاحظ أن المصريين أصيبوا بحالة لم يسبق أن أصابتهم عبر تاريخهم الطويل، إنها حالة من الاكتئاب العام. ضاعفت من عمق الأوجاع والهموم المصرية المتفاقمة.. لقد تعرض المصريون لعدوان 1956 ولكن القنابل لم تصب الجوهر بأي سوء.. وتحمل المصريون هزيمة يونيو 1967، ولكن روحهم المعنوية صمدت، وكانوا كعادتهم يطلقون النكات اليومية بسرعة المدفع الرشاش.. اليوم .. الأمر اختلف تماما.. كأن مصر تعرضت لأبشع من عدوان 56، وهزيمة 67،وهذا أمر يحتاج تفسيره إلي دراسات علمية واسعة ومتعمقة.. وإذا جاز الاجتهاد، فأنني اعتقد أن هذه الحالة النفسية الخطيرة، تعود إلي احساس الشعب بأنه قادر علي مواجهة أي عدوان يهدده من الخارج، ولكنه يشعر بالذل والمهانة والقهر، عندما يداهمه هذا العدوان من الداخل.. ومن بعض أبنائه الذين اغتصبوا حقوقه.. وأذاقوه العذاب، وقيدوه بالسلاسل، واصبحوا يحكمونه بالكرباج، ويتعاملون معه بالغش، والخسة والخداع.. وجعلوه يعيش وسط الأمم مفلسا ذليلا يستجدي المعونات ويستعطف الديانة لإرجاء سداد الديون. إن الشعب يشعر بأن النظام الحاكم الذي يتولي شئونه فقد الثقة والاعتبار.. وبين الناس قطاعات عريضة تعتقد أن مصر أسيرة سيطرة عصابة كبيرة.. تشبه الأخطبوط. وتتحكم في شتي الأمور، وتري في الحرية عدوا رئيسيا لابد من القضاء عليه، فلو استمرأ المقهورون الحرية، فسوق يقفون في مواجهة لصوص مصر..ويصرخون في وجوههم.. انتم لصوص.. وإذا كانت عصابة «علي بابا» تضم «أربعين حرامي» فأنتم عصابة مكونة من آلاف الحرامية. ثم إن الشعب يدرك تماما أن مثل هذه الحكومة، لن تصلح شيئا. ليس لأنها غير قادرة، وإنما لأن الإصلاح يحققه من يخرج ماله من جيبه ويضيفه إلي المال العام، وليس من ينهب المال العام ليملأ جيوبه وكرشه الواسع، وما أكثر تلك الكروش هذه الأيام. وبغض النظر عن الارقام والبيانات التي تغرقنا بها الحكومة فإن أحدا لايصدق رقما واحدا، لأن الاعتقاد السائد أن هذه الحكومة لاتعرف غير الكذب.. ثم إن الحقائق تثبت صدق الاعتقاد الشعبي، وتؤكد موقفه من الحكومة، فنحن نسمع عن معدلات للتنمية تتزايد، ولو أن تلك المعدلات أو نصفها، أو حتي ربعها، كانت تتزايد بالفعل كما يجييء في بيانات الحكومة وتصريحات وزرائها ، لكان حالنا الآن أفضل من حال سويسرا وفرنسا وبريطانيا، ونحن نسمع عن حل مشاكل يزداد تعقيدها، وفي مقدمتها مشكلة الإسكان والصحة والتعليم، ونسمع عن مواجهة الغلاء ، بينما ناره تزداد ضراوة. والمواطن البسيط، يفهم الاقتصاد بنفس البساطة وهو يدرك أن تلك «الجعجعات» الفارغة التي تتشدق بارقام طنانة، ينبغي أن تترجم في النهاية إلي واقع ملموس .. إن الاقتصاد في رأي المواطن البسيط هو نهاية الأمر، الرزق الحلال الذي يدخل جيبه، والانفاق الضروري الذي ينبغي عليه الوفاء به لتغطية الاحتياجات الاساسية لأسرته، فإذا زاد الرزق علي الانفاق، فهذا رخاء عام في اقتصاديات المجتمع، وإذا تساوي كل منهما، فهذا توازن مقبول يحفظ الحد الأدني من الشعور بالامان.. إما إذا حدث خلل، وزاد الانفاق الضروري علي دخل الانسان، فهذا يعني وجود نفس الخلل في الاوضاع العامة للدولة.. وعندما تصل الامور بالناس إلي ما وصلت اليه الآن، من غلاء حارق، حتي أن دخل الانسان لايكاد يغطي نصف احتياجاته الاساسية، فهذا انهيار مؤكد.. مهما زعمت الحكومة، في التقارير ، ومهما أطلقت الوعود في الخطب والتصريحات. والسؤال الذي يتردد بين الناس الآن هو: أين يمضي هذا النظام بمصر؟! إن مؤشرات عديدة تؤكد أننا نتراجع إلي الوراء، .. وأعرف أن شعور الشعب بالاكتئاب مسألة لا تهم السادة الحكام.. ولكنها سوف تنعكس بالمزيد من التدهور العام. فلا يوجد شعب مكتئب ومقهور قادر علي الانتاج وعلي الخلق والابداع. وإلي أن يقف المصريون صفا واحدا في مواجهة الأخطبوط الحاكم ويرفضون الاشتراك في المهازل ويأبون التستر علي التزوير ويحرصون علي كشف الاخطاء، فإن الاحوال سوف تنتقل من سييء إلي أسوء.. ويصبح العلاج صعبا.. وربما مستحيلا.