تعيش الجزائر أفراح استقلالها بذكرى مرور 50 عاماً على ثورة المليون ونصف المليون شهيد التى دفع فيها الجزائريون من دمائهم للحصول على أرضهم حرة. عاشت الجزائر منذ نهاية الثمانينيات وحتى نهاية التسعينيات على مدى عشر سنوات تحت سطوة الإرهاب المسلح باسم الدين - عرفت باسم العشرية السوداء - والذى أراد اغتيال الحياة باسم كتاب الله حتى أصدر الرئيس الجزائى عبدالعزيز بوتفليقة قراراً بالعفو عن الجميع مقابل التوبة عن القتل وسفك الدماء الذى تعرض له أبناء الوطن بأيدى أبناء الوطن. مهرجان «الدوحة ترايبكا» قدم بانوراما للاحتفال باليوبيل الذهبى للثورة الجزائرية وعرض العديد من الأفلام مثل «ريح الأوراس» للأخضر حامينا و «عمر قتلتو» لمرزاق علواش الذى يتناول الثورة وفى نفس الوقت عرض لعلواش فيلمه الجديد «التائب» الذى يتعرض لتلك السنوات التى عاش فيها الجزائريون وهم مهددون فى ممتلكاتهم وأرواحهم. السؤال الذى تقرأه فى ثنايا الشريط السينمائى هو: هل تمحو السنين المعاناة وهل يموت الثأر فى النفوس؟ الرحمة فوق العدل ولكن هل من نعفو عنهم يستحقون بالفعل المغفرة؟! فى الجزائر وفى عام 1999 أصدرت الدولة قراراً بالعفو عن الإرهابيين تطلب منهم العودة لمنازلهم والخروج من الجبل إلى الحياة مقابل عدم ملاحقتهم جنائياً.. المخرج الجزائرى «مرزاق علواش» يتساءل فى فيلمه «التائب» هل هم مهيأون لكى يصالحوا الحياة.. الإرهاب كما يراه «علواش» لم يكن حالة طارئة بل هو عقيدة تعيش فى أعماقهم وزمن العفو بالنسبة لهم سيتحول إلى مساحة لالتقاط الأنفاس وبعدها يستعدون مرة أخرى للانقضاض على الحياة.. عندما تعفو الدولة هل يغفر الناس؟ المخرج يجيب عن السؤال مؤكداً أن الإرهاب فى الصدور وأن الناس لم تنس وهكذا شاهدنا شخصية الإرهابى العائد من الجبل إلى بلده وهو منبوذ من الجميع، القرية التى جاء منها لم يستطع أهلها أن ينسوا الدماء التى أريقت فهم يريدون الانتقام وطاردوه من منزله ويذهب الإرهابى للعمل فى بلدة أخرى صبى قهوجى وعندما يحاول التقرب من صاحب المقهى ويناديه بكلمة أخى ينهره قائلاً لست أخاك. الناس ترفض أن تنسى فلقد كان الإرهاب المسلح فى الجزائر قاسياً ودموياًَ ولا يعرف رحمة وهو يغتال المئات من الأبرياء إلا أن الوجه الآخر من الصورة أن الإرهابى أيضاً لم ينس أنه لا يزال فى أعماقه رغبة لكى يغتال ويقتل ويتاجر حتى فى قبور الأبرياء. فى مشهد شديد الدلالة شاهدنا الأم التى فقدت ابنتها وهى تبحث عن المقبرة فى رحلة بالسيارة كان معها زوجها الصيدلى وهو الذى عقد الصفقة مع الإرهابى يريه قبر ابنته مقابل أن يحصل على المال.. الحياة انتهت تماماً لهذه الأسرة، الأم فقدت رغبتها فى التواصل حتى مع زوجها والأب يستعيد مسدسه عندما تلقى الخبر مجدداً بأن إرهابيا يتصل به يساومه على رفات الابنة!! يبدو كل شيء له أكثر من وجه.. ليس من الممكن أن نغلق الباب أمام العفو ولكن من يعفو ليس الدولة ولكن الذين دفعوا الثمن وفقدوا أعز ما يملكون. الفكرة التى بنى عليها المخرج موقفه تستحق التأمل إلا أن الحقيقة هى أن «علواش» منذ البداية وهو محدد الهدف يرفض العفو.. قدم شخصيات تمارس الإرهاب ولم يشفع لها التسامح الذى منحه النظام كما أنه وضعنا جميعاً فى موقف نرفض فيه توبة هؤلاء لأنهم مخادعون. «مرزاق» لديه قرار مسبق أحاله إلى فيلم لا يرى سوى جانب واحد فقط استحالة العيش المشترك.. قرار العفو يحتاج ربما إلى مراجعة ولكن البديل ليس هو تبادل العنف المسلح بين الدولة والإرهاب.. كانت أفكار المخرج أعلى من رؤيته السينمائية فلم أرى فيلماً ولكن فكراً!! تم النشر بعدد 624 بتاريخ 26\11\2012