لا نريد لأحد أن يخلط الأوراق، ولا أن يحل الفلسطينيون محل العدو الإسرائيلى، ولا أن يستصحب مع كراهية حكم الإخوان كراهية للفلسطينيين بالمرة. فلسطين ليست قضية إخوانية، ولا قضية محصورة باهتمامات التيار الإسلامى، وإن كان التيار الإسلامى - كغيره - من المهتمين بالشأن الفلسطينى، شأنهم فى ذلك شأن تيارات الوطنية المصرية كلها، فالليبراليون واليساريون وأهل الوسط ليسوا أقل اهتماماً من الإسلاميين بالقضية العربية الكبرى، والتيار القومى الناصرى أكثر اهتماما بالقضية من الإسلاميين، ومواقفه أكثر أصالة، ودعمه لاختيار المقاومة نهائى وحاسم، بينما تميل قيادة الإخوان إلى المساومة، وتعطيها أسماء أخرى من نوع «الهدنة» عوضًا عن لفظ «التسوية»، وقد لا تكون هذه قصتنا الآن، المهم أن نستبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود فى غبشة الفجر، وألا نضلّ السبل بدواعى كراهية الإخوان وحكمهم الفاشل، أو حتى الريبة - غير المشروعة - فى سلوك حماس وفصائل المقاومة الفلسطينية، فصحيح جدًا أن فلسطين هى قضية الفلسطينيين بامتياز، وصحيح جدًا أن فلسطين هى قضية الأمة العربية، وصحيح جدًا أن فلسطين هى قضية العالم الإسلامى والمسيحى الشرقى، وصحيح جدًا أن فلسطين هى قضية الضمير الإنسانى، كل ذلك صحيح وفى محله تمامًا، لكن الصحيح أيضًا - قبل ذلك وبعده - أن فلسطين قضية وطنية مصرية، وليس هذا الكلام عاطفيًا، بل يعبر عن الحقيقة الأم فى التاريخ المصرى بإطلاق عصوره، فقد كانت كل حروبنا مع إسرائيل دفاعا عن مصر، بل إن التطورات الكبرى فى التاريخ المصرى المعاصر جاءت من الباب الفلسطينى، فقد ولدت فكرة تنظيم الضباط الأحرار على تراب فلسطين، وكانت نهضة مصر الكبرى مرتبطة دائمًا بالحروب مع إسرائيل، وبين عامى 1948 و1973، أى فى ربع القرن الذى نهضت مصر فيه، جرت أربع حروب مصرية مع إسرائيل، وكانت كلها حروبًا دفاعية عن مصر، سقط فيها مائة ألف شهيد وجريح ومعاق مصرى، سقطوا دفاعاً عن الوجود المصرى، فوجود إسرائيل فى ذاته خطر على الوجود المصرى فى ذاته، وهى القاعدة التى تتأكد الآن بعد أربعين سنة من السقوط المصرى، وفى أجواء مخاض عنيف يرج الوجود المصرى رجا، ويستعيد إحساس مصر بذاتها، ويستدعى شعورها بالألم على سنوات الضياع المسماة زورًا باسم سنوات السلام، فقد كانت مصر -بعد حرب 1973 - رأسا برأس مع كوريا الجنوبية فى معدلات التنمية والتقدم والتصنيع والاختراق التكنولوجى، وصارت بعد أربعين سنة فى القاع تقريباً، نزلت من الحالق إلى الفالق، وصارت تنافس بوركينا فاسو على مؤشر الفساد الدولى، كان السقوط صنوًا للخضوع وإضعاف الجيش وتفكيك الصناعات الحربية، وتماما كالتفكيك والتجريف الذى جرى على حياتنا المدنية الصناعية والزراعية والسياسية والثقافية، ولا نريد أن نستطرد فى شرح ما جرى، فالمعنى الذى نريده ساطع كالشمس، وفحواه أن مصر المتأهبة على جبهة الحرب هى مصر التى تنهض فى التاريخ، والعكس بالعكس، وأن حدود مصر السياسية أبعد كثيرًا من حدودها بالجغرافيا، وأن حصر مصر داخل حدودها الجغرافية لا يعنى سوى تضييع وجودها ذاته، وتأملوا التاريخ المصرى منذ عهد مينا موحد القطرين، فقد دارت معارك الوجود المصرى الكبرى فيما نسميه الآن بالشرق العربى، وفلسطين فى قلبه، وابحثوا من فضلكم عن جغرافيا معارك الوجود المصرى الكبرى، من «مجدو» تحتمس إلى «قادش» رمسيس، وإلى «عين جالوت» قطز و«حطين» صلاح الدين، وإلى معارك إبراهيم باشا سارى عسكر عربيستان ومؤسس الجيش المصرى، وإلى معارك جمال عبدالناصر، كلها دارت فى الشرق العربى، وهو ما يعنى بالبداهة أن تفكيك كيان الاغتصاب الإسرائيلى شرط لازم لضمان سلامة الوجود المصرى، وأن حروب المقاومة الفلسطينية ضد إسرائيل هى خط الدفاع الأول عن مصر، وهذا -بالضبط- ما نعنيه بقولنا: إن فلسطين قضية وطنية مصرية، وإن الانتصار لفلسطين هو فى حقيقته انتصار لمصر أولاً، ولمصر بالذات. نعرف أن البعض بحسن النية أو بسوئها، يلجأ إلى خلط الأوراق، وإلى تزييف وعى الرأى العام، ويقول لك: إنها المؤامرة، وإن إسرائيل تخطط لطرد الفلسطينيين من غزة، وتوطينهم فى سيناء كوطن بديل، والمخطط حقيقى، ولم يولد الآن، وتضمنته خطط إسرائيل المعلنة منذ عقود، بل إن بريطانيا عرضت على اليهود توطينهم فى سيناء، وقبل أن يستقر المزاد الاستعمارى الاستيطانى على التهام فلسطين، وهذه حقائق تاريخية لا تتناطح فيها عنزتان، فالمخطط الإسرائيلى موجود، لكنه ليس قابلاً للتحقق بالضرورة، وأفضل طريقة لإحباط المخطط هى دعم بقاء الفلسطينيين على أرضهم وفك حصارهم، والفلسطينيون - بالتأكيد- ليسوا طرفا فى خطط إسرائيل، وثباتهم على أرضهم التاريخية يرتقى إلى مقام القداسة، وغزة - بالذات - هى التى تلد حركات المقاومة الفلسطينية جيلا فجيل، ومنذ عصر «فتح» إلى عصر «حماس»، وليس صحيحًا بالمرة أن أهل غزة يريدون الانتقال إلى سيناء، وتذكروا من فضلكم وقائع قريبة جداً، ففى يناير 2008 ضاقت غزة بالحصار المجرم المفروض عليها، وتدفق قرابة ستمائة ألف فلسطينى إلى مدن وقرى شرق سيناء، واشتروا بضائع وسلعاً من التجار المصريين بأسعار مضاعفة، وأنعشوا السوق المصرية الراكدة، وعادوا جميعًا إلى غزة دون أن يتخلف أحد، وفى يناير 2009، شنت إسرائيل حربها الطويلة ضد غزة، وقتلت ألفًا وخمسمائة فلسطينى فى حملة الرصاص المصبوب، ولم تترك حجرًا قائمًا على حجر فى غزة، ولم ينزح من الفلسطينيين أحد إلى مصر، وربما يكفى المثالان للذى يريد أن يقتنع أو يطمئن، فقد روجت جماعة مبارك لخرافة الاحتلال الفلسطينىلسيناء، وكان القصد ظاهرًا، فقد أرادت أن تتخفى بعمالتها وخدمتها للاحتلال الإسرائيلى فى فلسطين، وأن تحجب عن الشعب المصرى أم الحقائق، وهى أن سيناء ذاتها ظلت رهينة لسلاح العدو الإسرائيلى، وظلت منزوعة السلاح المصرى فى غالبها، وبعمق مائة وخمسين كيلومترًا، وظلت الدولة المصرية محرومة من سيادة السلاح فى سيناء، وتركتها نهبًا لشراكة ثلاثية بين عائلة مبارك فى شرم الشيخ، وجماعات الإرهاب فى شرق سيناء، والسلاح الإسرائيلى المتأهب على الحدود، والراعى لجواسيس الموساد فى قلب سيناء. وقد كان يشار إلى مبارك بوصفه أعظم كنز استراتيجى للإسرائيليين، بينما قد يصح أن يشار إلى حكم الإخوان بوصفه كنزًا لطرف آخر، ليس لإسرائيل على طريقة إذعان مبارك المباشر، بل كأعظم كنز استراتيجى للأمريكيين، وراقبوا - من فضلكم- تصرف الرئيس الإخوانى محمد مرسى مع العدوان الإسرائيلى الأخير على غزة، فقد سحب مرسى سفير مصر فى تل أبيب كتعبير احتجاجى، وهو ما اضطر مبارك نفسه لفعله غير مرة، ثم إن مرسى أرسل رئيس وزرائه هشام قنديل إلى غزة، ليس دعمًا للمقاومة بل دفعًا للمساومة، وصحيح أن مبارك لم يقدم أبداً على مثل هذه الخطوة، لكن الخطوة لا تعبر عن اختلاف نوعى بالمرة، فقد ظل الهدف هو نفسه متعلقًا بامتصاص عابر لغضب الرأى العام، وظل السقف المنخفض هو نفسه، أى التحرك دون المساس بكامب ديفيد، وعلى طريقة الوسيط المصرى الضاغط على الفلسطينيين كما تريد واشنطن، وهو ما أرادت إسرائيل اختباره مجددًا بعدوانها الأخير على غزة، وتركت مرسى لاختبار الولاء للأمريكيين وعلى أن تظل سيناء كما هى منزوعة السلاح المصرى، وعلى أن يظل جيشنا مقيدًا ومأمورًا بوقف عملياته لتحرير سيناء من قبضة الإرهابيين وهيمنة الإسرائيليين . نشر بالعدد 623 بتاريخ 19/11/2012