القصة رمزية وشهيرة جداً، وتحكى أن جهاز المخابرات فى دولة قوية أبلغ الرئيس بمعلومة غاية فى الخطورة، وهى أن رئيس الوزراء عميل للمخابرات المركزية الأمريكية، وصدم الرئيس الطيب بالخبر، وطلب مراقبة رئيس وزرائه بدقة متناهية، وعلى مدى ساعات ودقائق وثوانى الليل والنهار، ودون أن تنتهى المراقبة إلى شىء يريب، فلم يلتق رئيس الوزراء المتهم بأحد من جهاز المخابرات المركزية، ولا هاتف ولا راسل أحداً منهم، وكتم الرئيس حيرته إلى أن أحيل للتقاعد الاجبارى بعد عشرين سنة، فقد تحطمت الدولة، وأتى زمن الذكريات الباردة، وتذكر الرئيس المتقاعد حكاية رئيس وزرائه العجيبة، وصمم على أن يفاتحه فيما علم ، وكانت المفاجأة أن رئيس الوزراء المتهم اعترف لرئيسه بالحقيقة، وأخبره أنه كان بالفعل عميلاً للمخابرات الأمريكية، لكنه لم يلتق بأحد من رجالها سوى مرة واحدة عابرة فى حفل عام، ولم تطلب منه المخابرات الأمريكية سوى طلب واحد وحيد، وهو أن يجلب الرجل الأسوأ فى أى منصب يخلو، وفعلها الرجل، فكانت نهاية الدولة التى كانت قوية. وفى مصر، لا تبدو هذه القصة خيالية بأى معنى، فقدجرى تحطيم الدولة بالطريقة نفسها، وهى احلال الأسوأ من أهل الثقة، وتواترت دواعى التحطيم الإدارى عبر الثلاثين سنة الأخيرة بالذات، كان جهاز أمن الدولة هو عنوان الثقة، وتقاريره هى التى ترفع وتخفض، وكلما خلا منصب رشحوا الأسوأ، ثم أصبحت التقارير الأمنية تباع وتشترى، وبالذات مع دخول زمن البيزنس، وتصاعد دور مليارديرات المال الحرام، وتركز الثروة والسلطة فى يد عائلة مبارك، وفى الدائرة الضيقة اللصيقة بالعائلة، وهو ما سارع بمعدلات تحطيم الدولة، بل وتحطيم الأجهزة الأمنية نفسها، وتحويل الأجهزة الحساسة إلى خشب مسندة، فقد جرت «خصخصة» الوظائف العامة عمليا، وتحويل المقامات إلى أوراق بنكنوت، وتحويل المناصب إلى ماكينات نقود، وبدت النتائج ظاهرة مقتحمة للعين، وأصبح البحث عن وزير أو موظف نزيه كالبحث عن ابرة فى «كومة قش»، وتداعت الثقة العامة فى جهاز الدولة المفرط بالتضخم فى مصر، وتحول النظام إلى ركام، وتحولت «الدولة العميقة» إلى «دولة عبيطة»، وبدا تآكل دور الأجهزة الحساسة ملحوظا، فالجيش فى حالة مريعة، وجهاز المخابرات تآكلت همته وكفاءته، فقد أخذت اعتبارات البيزنس من أولويات الواجب الوطنى، وترافقت التبعية للأمريكيين مع عملية التحطيم الذاتى للدولة، وتفاقمت ظاهرة الرؤساء المفسدين و«الجنرالات المتكرشين»، ولاتزال العملية المدمرة جارية متصلة، فقد بدت الدولة عند رأسها فى زمن مبارك- عائلية وشخصية إلى أبعد حد، ولم تتغير فكرة «الدولة الشخصية» إلى الآن، وبدت «جماعة الإخوان» عند رأسها بديلا لعائلة المخلوع، وتواترت دواعى عملية تحطيم الدولة، وبدا الاحلال فى المناصب الكبرى كما كان بالضبط، ومع فارق صورى بسيط، وهو أن محاسيب الجماعة حل عليهم الدور بدلا عن محاسيب العائلة، ويكفى أن تقرأ لوائح تعيينات الرئيس الإخوانى، وسوف تجد القاعدة المدمرة سارية بالحرف، وباستثناءات قليلة جدا، لعل أهمها تعيين القاضى الجليل هشام جنينة رئيسا للجهاز المركزى للمحاسبات، وقد صدر قرار تعيين جنينة من الرئيس «الإخوانى» محمد مرسى، وكان أول تصريح للمستشار جنينة قاطعا فى طلب الاستقلال، ورفض تبعية جهاز المحاسبات لأى أحد، حتى لو كان الرئيس، وهو ما يكشف بمفهوم المخالفة عوار التعيينات الأخرى، والتى بدت صادمة مفزعة، ليس فى «إخوانيتها»، بل فى «متأخونيها»، فليست لدى جماعة الإخوان كفاءات تصلح لإدارة دولة، وإن وجدت فهى كفاءات من الدرجة العاشرة، ويجرى اكمال النقص «الإخوانى» بإحلال المتأخونين والمؤلفة قلوبهم وجيوبهم من الفلول، وتأمل من فضلك تشكيلات الرئيس مرسى، ومن أول طاقمه الاستشارى إلى ما يسمى بالمجلس الأعلى للصحافة، مروراً بتشكيلات المجلس القومى لحقوق الإنسان، وتعيينات الحكومة، ورؤساء مجالس إدارات وتحرير الصحف المملوكة للدولة، وإلى تشكيلات ماسبيرو والأجهزة الرقابية والأمنية، وسوف تجد قاعدة «إحلال الأسوأ» سارية، وعلى طريقة توزيع الهبات والعطايا والغنائم، والنتيجة: اضعاف وتركيك الدولة، وتحويل بنيان الدولة إلى حطام وركام. ونظن أن ظاهرة «تحطيم الدولة» هى ما يستلفت الانتباه، وربما بصورة أكبر من «أخونة الدولة»، والتحطيم الجارى بهمة انتقامية ملحوظة، قد يغرى بالتصور التالى، وهو أننا بصدد خطوة التحطيم افساحا فى المجال أمام «خطة الأخونة»، فقد كانت قوة الدولة المصرية دائما عقبة كأداء وسدا عاليا فى وجه خطط الغزو والاحتواء، ولعلك تلحظ ما جرى فى الثلاثين سنة الأخيرة بالذات، ومنذ سريان ما يسمى «معاهدة السلام» والمعونة الأمريكية الضامنة، فقد جرى نشر فيروس الانحلال فى جهاز الدولة الضخم، جرى تفكيك وظائفه الاجتماعية والاقتصادية والدفاعية، وبوصاية صندوق النقد والبنك الدوليين، جرى خفض الانفاق الاجتماعى، وتغليب تيار «الخصخصة» التى تحولت إلى «مصمصة»، وجرت «الخصخصة المجازية» للوظائف العامة، وتفكيك المجمع الصناعى العسكرى، وتحويل الجنرالات الكبار إلى رجال مال وأعمال، واحلال «العائلة» محل «الدولة»، واحلال ظواهر «اللبننة» و«الأفغنة»، وهو ما تتضاعف معدلاته الخطرة مع احلال «الجماعة» محل «العائلة» عند رأس الدولة المحطمة، وهذا أخطر ما يجرى فى مصر الآن، فليست القصة فى محاكمة عناصر فساد زكمت رائحتها الأنوف، بل فى الطريقة ذاتها المنتجة لفساد وتحلل لا ينتهى، ليست القصة فى منتجات الفساد، بل فى «مصنع الفساد» الذى انتهى إليه حال الدولة المصرية، وفى تحول الأجهزة الرقابية ذاتها إلى مزارع فساد، بل وفى طوفان الفساد الذى أغرق «النزاهة المفترضة» فى الجهاز القضائى ذاته، فقد كانت الطريقة المعتمدة هى هى لاتزال، وهى أن أفسدوا ما شئتم، ولكن بشرط واحد، وهو أن تحفظوا الولاء أولا للرئيس، وهو ما يفسر الدوران السريع لماكينة «النفاق الآلى»، ولصق اسم «مرسى» على الشفاه بدلا من اسم «مبارك»، وما يفسر القسم العجيب الذى أداه مدير جهاز المخابرات الجديد اللواء محمد رأفت شحاتة، وليس العجب لا سمح الله فى وضع شحاتة يده على المصحف الشريف أثناء أداء القسم أمام الرئيس مرسى، وربما لايكون العجب فى تلوين ألفاظ القسم بطابع دينى غلب على طابعه الوطنى والدستورى، فلا إشارة فى نص القسم المذاع إلى الدستور ولا إلى النظام الجمهورى، بل حلت عبارة «أن يكون ولائى كاملا لرئيس الجمهورية»، وكأن مدير المخابرات مجرد موظف عند سيادة الرئيس، ولا محل هنا للقول إن جهاز المخابرات بطبيعته تابع لمؤسسة الرئاسة، فالتبعية المؤسسية شىء، والولاء الشخصى شىء آخر، والرئيس نفسه فى أى نظام دستورى عرضة للاتهام بجريمة الخيانة العظمى، فهل يكون مدير المخابرات وقتها فى حال «الولاء الكامل» لرئيس خائن، إنها ظاهرة خصخصة الوظائف العامة نفسها، وتحطيم مناعة أجهزة الدولة، وتحويلها إلى مكاتب خدمات وتسهيلات لجماعة الرئيس، وإحلال طغيان جماعة محل طغيان عائلة تداعى نفوذها مع طرد المخلوع. وقد لا يكون الكلام متاحا الآن وإلى حين عما يجرى فى كيانات أخطر من جهاز المخابرات ذاته، فنحن بصدد عملية تحطيم دولة تمهد لأخونة الدولة. تم نشره بالعدد رقم 615 بتاريخ 24/9/2012