بعد عصر الصحابة والتابعين – صنعت أخبار تقول : بإن الرسول الحكيم المعصوم كان يرى رأيا – وعمر يرى رأيا مخالفا، فينزل القرآن مؤيدا لرأى عمر – 1- وهذه أخبار كلها مصنوعة مكذوبة فى القرن الثانى والثالث. ذلك ( لأن الرسول – صلى الله عليه وسلم – معصوم من الخطأ، ومؤيد بالوحى، وعمر رجل عبقرى وعادل. ولكن ليس معصوما، ولا مؤيدا بوحي. فأقل تأمل- بعقل مفكر ( لا بعقل غفل) ينتهى إلى أن المعصوم لا يخطئ، أما غير المعصوم، فلابد من أن يقع فى خطأ، ولو كان مرة، من كل ألف مرة، لأن الحق تعالى قرر ذلك فقال، واصفاً الناس غير الأنبياء: ((وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا)) (الشمس) – فالنفس البشرية (بعد الرسل) التى تنطوى على فجور وعلى تقوى، مهما كانت تقية ورعة، متطهرة، فلابد من أن تزل، ولو فى العمر، مرة أو بضع مرات. ويدل على ذلك أيضاً أن الحق تعالى يقول عن المؤمنين ( فكيف غير المؤمنين) = ((وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِى كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِى قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ)). فهذه الآية الكريمة تدل على أن الرسول المعصوم يتميز على الصحابة وسائر المؤمنين ؛ فالرسول.. معصوم مهدى، وبارئ من الهوى: ((وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى))(النجم-3). أما الصحابة وسائر المؤمنين- فهم يدافعون الهوى، ولكن الهوى قد يغلب، ولو مرة فى العمر، عند بعضهم، ومرات، عند بعضهم الآخر- ولكن الرسول، سواء بوجوده بينهم – أو بما تركه من سيرة أو حديث – كان يأبى عليهم من الأمور ما ليس مستقيما مع الصراط المستقيم، فيكف عنهم بذلك أن يصيبهم العنت. أما أن الرسول لا يخطئ ( وهكذا سائر الرسل) وأما أن البشر العاديين كانوا يخطئون.. لولا أنه لا يخطئ لكثر الشك فى كلامهم وسلوكهم ولكثر الرد عليه، ولانتقض الاقتناع، والإيمان بهم (أى بالرسل) وهذا أمر مدرك بالضرورة. وأظن أن التحليل الذى يقوم على منطق العقل المتسق مع مقدس النقل (ومقدس النقل هو القرآن الكريم والحديث الصحيح) يكفى للجزم بأنه- لاعمر ولا غيره يمكن أن يقول رأيا يخالف رأى الرسول المعصوم، فينزل الوحى يؤيد هذا الرأى – لعمر أو لغيره. - بَيْدَ –أن الرسول والرسل جميعاً – صلى الله عليهم وسلم – قد يأتون بما يسمى (خلاف الأولى) – وهو قول أو فعل صحيح، بنسبة (95%) تقريباً، فيصحح الله تعالى لهم ذلك، لأن الله – العزيز الحكيم يريد لأنبيائه الكمال. ومثال ذلك ما ورد فى سورة (عبس). فقد جاء إلى الرسول المعصوم – ابن أم مكتوم – الأعمى – يريد أن يسلم، ولكن الرسول كان يتحدث مع أحد سادة قريش هو العاص ابن وائل السهمى – فكان الرسول يطمع بإسلامه، لأن إسلامه يؤدى إلى إسلام معظم عشيرته – فأعرض عن إجابة هذا الأعمى. لكن الله تعالى أراد الكمال للرسول، فأرشده أن يقبل بوجهه على من أراد الإسلام، فهو أهم ممن هو معرض عن الإسلام، أو لم ينشرح قلبه للإسلام (عبس 1-8). وهذا الفعل من الرسول ليس خطأ، وإنما هو صواب، لكن ما أرشده الله له صواب أكمل. مواقف مزعومة بين الرسول المعصوم – وعمر: المواقف المزعومة متعددة، ولا يمكن عرضها بمقالة واحدة. ولكن نأخذ منها خبراً شهيراً جداً، نمثل به يقول الخبر إن الرسول المعصوم رأى أن يفادى أسارى معركة بدر وأن لا يقتلوا – ومعه معظم الصحابة – ولكن عمر رأى أن يقتل هؤلاء الأسرى.. وإلى هنا – الكلام صحيح. ولكن غير الصحيح هو أن القرآن نزل مؤيداً لقول عمر. وهذا.. غير صحيح والقرآن الذى نزل هو : ((مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِى الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ )) (الانفال – 67) ومعنى الآية : ما كان يجب أن تأخذ – يا محمد – أسرى، وأنت لم تتوسع فى البلاد، حتى تكون لك دولة. وأنتم – أيها الصحابة – تريدون – بأخذكم الأسرى- عرض الدنيا الذى يقوم على شيئين: السمعة بين الناس.. أنكم أصبحتم، من حيث القوة ؛ بحيث تتغلبون فى القتال، ويكون لكم أسرى. والشيماء الثاني: أن تفادوا الأسرى بالمال. وإرشاد الله تعالى لرسوله – صلى الله عليه وسلم – لا يعنى أمراً بقتل الأسرى. وكيف يكون ذلك، والله تعالى يترفق بالأسرى، قال تعالى: ((وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا )) (الإنسان- 8) – وإنما يعنى أنه كان يجب عليك، عندما انهزم المشركون، أن تأمر من ينادى فيهم: من ألقى سلاحه وفر.. فلن نقتله، ومن فر بسلاحه، ولم يلقه.. فسنلاحقه حتى نقتله. عندئذٍ.. سيأبى بعض الشجعان أصحاب المروءة أن يلقوا سلاحهم، فليلحقهم المسلمون ويقتلونهم ولن يكونوا كثراً، لأن المنهزمين تخلع قلوبهم. كما قال المتنبى عن المنهزمين: (وضاقت الأرض، حتى ظن هاربهم *** إذا رأى غير شيء ظنه رجلاً) وإذن.. يلقون سلاحهم، ويعودون إلى مكةالمكرمة من دون سلاح. وهذا.. يزرع الجبن والرعب فى قلوبهم، فلايعودون إلى مقاتلة المسلمين، مرة أخرى. والدليل القاطع على أن القرآن لم ينزل، مؤيداً لرأى عمر – أن آية (ماكان لنبى...)- لم تنزل، بعد أسر الأسرى، مباشرة، وإلا لما خالفها الرسول المعصوم، لأن الرسول (وسائر الرسل) لا يعصون أمر الله، بل ينفذونه، من دون إبطاء. (أما نحن البشر – فنطيع ونعصى)- وإنما نزلت بعد قرابة ثلاثة أشهر من حادثة الأسر، أي: بعد أن لم يبق ولا أسير واحد فى حوزة المسلمين. وهذا.. يعنى أن القرآن مع عدم قتل الأسرى – كما كان موقف الرسول أما رأى عمر – فكان قتل الأسرى. والآية.. لا تأمر – إطلاقاً – بقتل الأسرى، وإنما هى إرشاد للمستقبل. ومثل هذا الموقف كل المواقف الأخرى. فكل منها له تفسيره الذى يرجح جانب الرسول المعصوم على قول عمر أو غيره من الصحابه. أو هو يقوم على خبر مكذوب، لا أساس له من الصحة. فما كان لبشر غير رسول أن يكون رأيه أسد من رأى رسول الله - و كل رسول. والله هادى إلى الحق.