لم تكن مجلة «Air & Cosmos» الفرنسية الشهيرة المتخصصة فى الاسلحة تكذب عندما قالت إن المصريين خطفوا فى صفقة عجيبة ومدهشة طائراتنا الفرنسية التى نصنعها لبلادنا، ونفخر بكونها جزءا من منظومتنا الدفاعية، التى تحمى الحضارة والثقافة الفرنسية. فهناك ثلاث طائرات على وشك الانتهاء من التصنيع كانت ستطير من مدينة بوردو فى طريقها الى القوات الجوية الفرنسية، ستبدل وجهتها وتذهب بدلا من قاعدة مون فاغدان 942 الجوية الأكبر فى فرنسا والتى تقع فى مدينة ليون جنوب شرق فرنسا، إلى قاعدة بلبيس، حيث أكبر القواعد العسكرية الجوية المصرية. ■ كيف صدق «الفرنسيون» أن مصر تستطيع أن تقول لا لأمريكا؟ ■ حقيقة المفاوض المصرى فى صفقة الرافال الذى ائتمنه السيسى على الصفقة ■ سر الحقيبة «الثقيلة» التى ذهب بها المفاوض المصرى فى أول جلسة مباحثات فى مطعم بباريس ■ عندما قال الخبراء.. لقد خطف المصريون طائراتنا أمام أعيننا فى أحد مطاعم باريس، كان اللقاء الأول الذى جمع المفاوض المصرى الذى إئتمنه الرئيس السيسى على تفاصيل صفقة الرافال مع المسئول الكبير بوزارة الدفاع الفرنسية. السر فى نجاح الصفقة ليس فى قوة المال المصرى الحاضر على طاولة المفاوضات، فالجميع يعلم تماما قدرات الاقتصاد المصرى المتواضعة قبل وبعد السنوات الأربع الماضية، لكن السر فى كيفية اللعب على عقدة «الفشل» الفرنسية فى تسويق طائرة بهذا القدر الكبير من المواصفات والامكانيات. حضر المسئول الفرنسى، حاملا «أكلاسير» خفيف لا يحمل الكثير من الاوراق، بينما حضر المفاوض المصرى حاملا حقيبة متخمة من الاوراق، وكلها كانت تحمل معنى واحد فقط، «أنتم فشلة فى التسويق، ورائعون فى التصنيع». ابتسم المسئول الفرنسى وهو ينظر الى الملفات التى وضعها المفاوض المصرى على طاولة الطعام التى افرغ ما حولها من طاولات بناء على اتفاق مسبق مع المفاوض المصرى، الذى أراد على ما يبدو أن يهيئ الاجواء ويعطى المساحات لخصمه أن يقع دون أن يجد شيئا تطوله يده بعد جولة المبارزة الاولى. بدء المسئول الفرنسى يسأل عما سوف تكتبه مصر فى خانة التمويل فى طلب شراء الطائرات ال 36 التى عرض المفاوض المصرى شراءها، فرد عليه، المفاوض المصرى، وهل كان هناك شك فى قدرة كل هؤلاء على التمويل، اذا كانت المشكلة فى التمويل. وأثناء ما كان ينطق المفاوض المصرى كلمته الاخيرة كان يخرج من حقيبته ملفات الدول التى سبق وأن تقدمت بطلبات شراء الطائرات، وكانت النتيجة «الفشل» وعدم اتمام الصفقات من الجانب الآخر. ابتسم المسئول الفرنسى بعد أن أدرك أن المفاوض المصرى قد درس الامر جيدا، وأن لديه معلومات شديدة الدقة والتفصيل عن كل الطلبات التى لم تكتمل لشراء الطائرة الرافال فخر الصناعة العسكرية الفرنسية. فى عام 2005 تراجعت سنغافورة عن الشراء، وفى 2007 كاد ينهى القذافى الصفقة لكنه تراجع، وفى نفس العام سويسرا، وفى عام 2008 بدأت البرازيل جولة طويلة جدا من المفاوضات انتهت بالتراجع بعد خمس سنوات كاملة من المباحثات. وفى عام 2009 تقدمت الكويت بطلب لشراء 28 طائرة، لكنها لم تكمل المفاوضات واستبدلتها بطائرات اخرى، وكذلك فعلت الامارات العربية المتحدة لكنها تراجعت عن شراء 62 طائرة. وفى عام 2011 وعقب انطلاق ثورات الربيع العربى فكرت قطر فى شراء 72 طائرة ثم تقلصت الصفقة الى مجرد توقيع عقد رفع كفاءة ما لديها من اسطول طائرات الميراج. وقبل ان ينهى المفاوض المصرى من رصد لتاريخ التراجعات العالمية عن شراء هذه الطائرة، قال لمحدثه، «أنتم تعلمون ان السبب واحد لتراجع كل هذه الدول.. المخابرات الامريكية». (الاستثناء الوحيد كانت الصفقة الفاشلة للهند، حيث طالت المفاوضات جدا، وما أن اقتربت على النجاح حتى ارتفعت الأسعار، وبات على الهند أن تدفع ضعف الرقم الذى بدأت به المفاوضات، وهو ما لم تتحمله الميزانية الهندية). لم ينطق المسئول الفرنسى بكلمة، فأكمل المفاوض المصرى (المذاكر)، كلامه قائلا، نحن محصنون من هذا المرض، نحن نستطيع أن نقول للأمريكان لا. انتهى الكلام عن الصفقة، بعد أن وصل ال «الابريتيف»، وبدأ حوارا آخر عن المتحف المصرى الكبير الذى تسارع الحكومة الحالية الزمن كى يرى النور، رغم كل العقبات التى تواجهه، ووعد المفاوض المصرى محدثه الفرنسى بأن أول دعوة لحضور حفل افتتاح المتحف الكبير ستكون للدولة الفرنسية. قرابة الأشهر الثلاثة، هى عمر أسرع مفاوضات فى تاريخ صفقات السلاح فى العالم تقريبا، من نوفمبر 2014 حتى الإعلان عنها فى فبراير 2015، استضافت مدينة بوردو الفرنسية التى تحتضن مصنع الطائرات داسو رافال عدداً من جولاتها وجلساتها ومناقشاتها. تفاصيل ما جرى فى هذه الصفقة يفخر بها أى مصرى، لكن احترام الوعد بعدم الافصاح يقتل أى صحفى، لكن المسئولين الفرنسيين كانوا أكثر انفتاحا من نظرائهم المصريين، وإن كانوا يشاركونهم الحرص الزائد. فمثلا صرح أحدهم، بأن مصنع الطائرات الفرنسية داسو أفياسون أنتج على مدار 29 سنة 290 طائرة فقط، أى أن قدرته على الانتاج لا تتعدى 10 طائرات فى العام الواحد، أما إذا ما رفع سقف أوقات العمل، وهو أمر غير قانونى فى فرنسا فى غير أوقات الحروب والطوارئ، سينتج المصنع 12 طائرة فقط. وهذا يعنى أن الطائرات التى اتفقت مصر على شرائها من فرنسا (24 طائرة) سوف تستغرق ما يقرب من سنتين ونصف السنة إذا بدأ المصنع فى الإنتاج فورا. لكن المفاجأة أن المصنع سبق وتعاقد مع الحكومة الفرنسية على إنتاج 40 طائرة للسلاح الجوى الفرنسى، فى صفقة عمرها أربع سنوات، وبالتالى كان على مصر الانتظار أربع سنوات ليبدأ المصنع فى تصنيع الطائرات المصرية، لتنتهى الصفقة بعد سبع سنوات ونصف أى فى منتصف عام 2022. وهنا ضغط المفاوض المصرى على عقدة الفشل وجرح الكبرياء الفرنسى، عندما قال «ينجح الأمريكان دائما بسبب قصر نظر خصومهم»، ففهم الفرنسيون الرسالة. بعدها بأيام قال يان كوشينيك المتخصص فى التصنيع العسكرى، نجح المصريون فى الحصول على طائراتهم من الرافال من خط الإنتاج الخاص بسلاح الطيران الفرنسى. حتى أن آلان روسيت رئيس المجلس الاقليمى لمدينة بوردو، عبر عن سعادته بخبر الصفقة المصرية، وقال صحيح ان المصريين حصلوا على طائراتنا المخصصة لسلاح الجو الفرنسى، لكن هذه الصفقة ستدفع شركة داسو أفياسون أخيراً لتنفيذ خططها التوسعية وتشغيل المزيد من الفرنسيين العاطلين للوفاء بتعهداتها سواء للمصريين أو للحكومة الفرنسية. روسيت كان يعنى ما يقول، فهذا الخبر، سيدفع قرابة 500 صناعة مباشرة وغير مباشرة تساهم فى انتاج الطائرة لتوظيف المزيد من العمالة. تبلغ قيمة الصفقة 5.2 مليار يورو ليست فقط مقابل 24 طائرة رافال، منها ثلاث طائرات ستتسلمها مصر بعد اقل من ثلاثة أشهر من الآن، بل ومعها سفينتان حربيتان مضافا اليهما صواريخ جو جو ميتيور المتطورة والتى توجه بالرادار النشط يبلغ مداه 100 كلم. حتى أن رئيس تحرير صحيفة لوموند تعجب من كيف ستدفع مصر نصف مليار يورو فقط، كمقدم تعاقد وستكون هناك ثلاث طائرات رافال تخدم فى سلاح الجو المصرى، وسفينة فرقاطة حربية متطورة تسبح فى خليج السويس ترفع العلم المصرى، وهو مبلغ أقل من ثمن الطائرات الثلاث والفرقاطة الحربية. ورغم الاهداف غير الحميدة التى كتب بمدادها فى صحيفة لوموند هذه الكلمات، إلا أن رئيس شركة داسو أفياسون كان سعيدا بارتفاع اسهم شركته فى اليوم الاول للبورصة بعد الاعلان عن الصفقة المصرية من 1160 يورو الى 1280 يورو بعد ثلاثة أيام من الصفقة. معذورة صحيفة اللوموند فى اندهاشها، فقد كانت الصفقة الاماراتية التى لم تكتمل تنص على أن يكون الدفع على أربع دفعات على ست سنوات منها 25% مقدما، قبل سنتين من الحصول على أول طائرة. سعادة الفرنسيين بالصفقة المصرية، لم تكن مقصورة فقط على كونها فخر الصناعة الفرنسية، ولا أنها ستدفع دماء العمالة الجديدة فى شرايين 500 شركة فرنسية صغيرة ومتوسطة، بل فى فك «النحس» الامريكى عن تلك الطائرة التى قال عنها الخبراء إنها أسرع طائرة تغتصب الاجواء فى لمح البصر.