يملك الرئيس أن يحقق امتيازا لسياسته الداخلية يساوى امتياز سياسته الخارجية، لو أنه التفت إلى عورات الداخل المصرى، ولو أنه أنهى الثنائية المهلكة لوجود رئيس جديد يحكم بالنظام القديم ذاته، ولو أنه أقدم على ما هو حق وعدل، ووجه ضربة كبرى إلى تحالف البيروقراطية الفاسدة ومليارديرات النهب، ولدى الرئيس كل الملفات، ويملك أن يضاعف تفاؤل المصريين بنتائج مؤتمر شرم الشيخ، وأن يحوله إلى قوة دفع هائلة للعمل الوطنى، لو أنه أقدم على المواجهة المؤجلة، واسترد ثروات مصر المنهوبة. ما من عاقل يجادل فى النتائج المبهرة لمؤتمر شرم الشيخ الاقتصادى، فقد حقق نجاحا سياسيا مذهلا برغم عنوانه الاستثمارى، وحقق نجاحا اقتصاديا كاسحا فى جلب الاستثمارات، وسرى بحالة من التفاؤل غير المسبوق فى الأوساط الشعبية الواسعة . ولا يجادل أحد فى تزكية الدور الشخصى للرئيس عبد الفتاح السيسى، فقد بدا أنه يتحول من رئيس منتخب إلى زعيم حقيقى، يمتلك بصيرة نافذة، ويراهن على ما يبدو مستحيلا، وتصدق توقعاته وحده، والتى بدت لكثيرين كنا منهم مغالية وحالمة جدا، وحتى الحكومة نفسها لم تكن تتوقع كل هذا الفيض، فقد كانت تتوقع تدفقات استثمارية فى حدود 15 مليار دولار.. وكان الرئيس السيسى وحده يستهدف استثمارات خارجية فى حدود المئة مليار دولار، وتحقق بالأرقام ما يبدو أكبر من توقع الرئيس، وبلغت جملة الاستثمارات الموعودة ما يصل إلى 175 مليار دولار، كثير منها فى صورة مذكرات تفاهم أولية، فى حين وصلت التعاقدات الفعلية الجادة إلى ما يقل قليلا عن المئة مليار دولار التى حلم بها الرئيس . وقد قرر الرئيس أن يعقد المؤتمر الاقتصادى العالمى سنويا، وهذا قرار فى محله تماما، ومن شأنه أن يحول مصر إلى قطب جاذب للاستثمارات، وإلى ورشة عمل كبرى فى المنطقة، تستهدف جلب استثمارات خارجية بين مائتى مليار وثلاثمائة مليار دولار، وهو المبلغ الذى يستهدفه الرئيس، ويراه ضروريا لتمويل بناء مصر جديدة صناعية متقدمة، وفى سياق نهوض جديد، يعى دروس تجربتى محمد على وجمال عبد الناصر، وهما التجربتان اللتان أشار إليهما السيسى فى اعتزاز عظيم، وبروح من «الوطنية الصوفية» يمتاز بها الرجل، والذى يتحول الآن إلى زعيم وطنى وعنوان لمشروع اقتصاد جديد . ولا يبدو نجاح رهان السيسى الاستثمارى منفصلا عن رهانه السياسى، ولا عن القدر المتحقق من انجازاته السياسية الخارجية بالذات، فقد نجح الرجل فى بناء صورة عربية ودولية مختلفة لمصر، وبلور دوائر دعم عربى ودولى لمصر الجديدة، أقام تكاملا وظيفيا بين قوة مصر العسكرية والرمزية والقوة المالية لمعسكر دول الخليج، وقلص الاعتماد على التبعية الموروثة للسياسة الأمريكية، وأدار فى شهوره التسعة الأولى انفتاحا غير مسبوق على قوى الدنيا الجديدة، وطور شراكات استراتيجية مؤثرة مع روسيا والصين وعواصم نافذة فى الاتحاد الأوروبى، ولم تكن مصادفة بغير مغزى موحى، أن مؤتمر شرم الشيخ سبقته زيارة بوتين الناجحة جداً إلى القاهرة، وتلحقه زيارة الرئيس الصينى المحورية، ونتجت عنه دعوة إنجيلا ميركل إلى السيسى لزيارة برلين عاصمة الاقتصاد الأوروبى، فالرجل يركز على علاقات الأوزان الثقيلة، والتى تضيف مددا هائلا لبناء طاقة انتاج حقيقية فى مصر، تزود الجيش المصرى بأحدث أسلحة العالم، وتطور صناعة سلاح ذاتية فى مصر، وتقيم تكاملا محسوسا للصناعات الحربية مع الصناعات المدنية عبر ما قد تصح تسميته برأسمالية الجيش البازغة، وتستأنف البرنامج النووى السلمى المصرى بعد توقف لأربعين سنة، وتقفز بإمكانات توليد الطاقة بما فيها الطاقة النووية، وهو ما يفسر أولوية الاستثمار فى محطات الطاقة، وفى مشروعات قناة السويس الجديدة، وفى المشروع الطموح لاستصلاح أربعة ملايين فدان جديدة، وفى بناء المدن المليونية العملاقة، وفى استثمار الموقع الجغرافى المميز لمصر، وفى توثيق عرى دائرة مركزية تصل المحيط العربى بالعمق الأفريقى، وفى التركيز على مشروعات كثيفة العمالة، تمتص الملايين من فوائض البطالة فى مصر، والتى تصل الآن إلى 12 مليون عاطل، فضلا عن إضافة نحو مليون طالب لفرصة عمل سنويا فى مصر المثقلة بأوجاعها الموروثة. والمتابع لما جرى فى مؤتمر شرم الشيخ، ولتعاقدات الاستثمار فيه، وحتى لمذكرات التفاهم والنوايا المبدئية، المتابع المدقق يلحظ شيئا مهما فيما نعتقد، فقد ازدحم المؤتمر بجماعات ممن يسمونهم برجال الأعمال والمليارديرات المصريين، والذين احتفوا بالتسهيلات الحكومية الجديدة فى قوانين الاستثمار، وبتخفيضات الضرائب، وبالامتيازات الموعودة، وأقاموا الأفراح والليالى الملاح المتغنية بكرم الحكومة وتشريعات «السداح مداح»، ولكن دون أن يدخلوا طرفا فى التعاقدات الاستثمارية التى جرت بعشرات المليارات، فلم نلحظ وجود أى رجل أعمال مصرى فى اتفاق مهم مع شريك استثمارى عربى أو أجنبى، اللهم إلا باستثناءات طفيلية من الباطن لا تكاد تذكر، وبدا الطرف المصرى فى الاتفاقات محفوظ الاسم والرسم، فقد كانت الدولة هى الطرف المصرى المتكرر فى الاتفاقات الكبرى، وغابت أسماء مليارديرات النهب العام، فهم ليسوا رأسماليين بالمعنى المفهوم فى الدنيا كلها، بل مجرد جماعة «نهب مالية»، وما من علاقة جدية تربطهم بالمعنى الانتاجى، ولا بالمشروعات كثيفة العمالة، وهم مجرد «نهازى فرص» عابرة، أقرب إلى اقتصاد الخدمات أو اقتصاد المضاربة أو «رأسمالية الشيبسى»، وقد حضروا المؤتمر كمناسبة علاقات عامة، يقيمون فيها روابط وصلات مع وزراء ومسئولين، ويتطلعون إلى استعادة ما كان فى الثلاثين سنة الأخيرة بالذات، يحثون فيها الحكومة على خصخصة و«مصمصة» ما تبقى من وحدات القطاع العام المتآكلة، وبيعها لهم بتراب الفلوس، وتفكيك المصانع، وتسقيع الأراضى والمضاربة العقارية، وهو ما عبر بعضهم عنه علنا، فى حين تكتم آخرون، ودخلوا فى جولات استطلاع وجس نبض، والتأكد من فرص لاحت فى تشريعات الاستثمار الجديدة، ومع أحاسيس لا تخفى من عدم الاطمئنان الكامل لنوايا الرئيس السيسى، والذى تبدو تصوراته الضمنية مختلفة، ويبدو حذره ظاهرا، ومع التفضيل الظاهر لرأسمالية دولة جديدة، لا تحول فرص الاستثمار إلى نوبات «استحمار»، على نحو ما جرى خلال أربعين سنة أعقبت حرب أكتوبر1973، تدفقت فيها على مصر منح وهبات ومعونات وقروض استثمارية، بلغت فى جملتها ما يزيد على 300 مليار دولار، ولم تكسب منها مصر سوى الخيبة تلو الخيبة، وانتهت إلى انهيارات ومظالم وطبقة نهب قامت عليها الثورة، والتى بدت إشارات الرئيس السيسى إليها – أى إلى الثورة – مما زاد فيه غضب مكتوم لمليارديرات النهب، والذين صدمتهم إشارات السيسى – على منصة ختام شرم الشيخ – إلى الثورة، وإلى الاعتزاز الفياض بتجربتى محمد على وجمال عبد الناصر بالذات. وصحيح أن مشروع السيسى لا يبدو مباليا إلى الآن باعتبارات العدالة الاجتماعية، ولا باعتبارات توزيع المغارم، ويحمل الفقراء والطبقات الوسطى بأعباء وتكاليف فوق ما تطيق، تزيد من عنت «بطولة البقاء على قيد الحياة» التى يعيشها أغلبية المصريين، وتوالى فى موجات ارتفاع الأسعار وتكاليف الخدمات العامة المتدهورة أصلا، وفى خفض دعم الطاقة والدعم السلعى، وهو مايريد الرئيس السيسى مواصلته فى برنامج إنهاء الدعم على مراحل سنوية، وبما يزيد من احتقان وغضب اجتماعى واسع يصح الالتفات إليه، ليس على طريقة الرئيس التى تواترت، والتى يقول فيها إنه لن ينتظر حتى يثور المصريون للمرة الثالثة، وأنه ليس حريصا على البقاء فى منصب الرئاسة، فليس هكذا تورد الإبل أو تستقيم الأوضاع، بل بجرأة وشجاعة «التصحيح الذاتى»، وبتوزيع الشعور بالعدالة، وبالأخذ «من كل برغوث على قد دمه»، وبالانحياز الصريح لغالبية المصريين من الفقراء والطبقات الوسطى، والذين أثبتوا بالاكتتاب الشعبى فى «مشروع قناة السويس» أنهم السند والمستثمر الأعظم فى مستقبل مصر، وصنعوا معجزة قابلة للتكرار، وقد دفع هؤلاء وصبروا وتحملوا وأملوا ويأملون مع الرئيس، والذى يتوجب عليه الإنصاف ضمانا لاستقرار وأمن اجتماعى حقيقى، بتفكيك الاحتقان الاجتماعى والاحتقان السياسى، فالإرهاب مشكلة ظاهرة تواجه مصر الجديدة، لكنها الأهون خطرا إذا قيست إلى الفساد الأخطر، ويملك الرئيس أن يحقق امتيازا لسياسته الداخلية يساوى امتياز سياسته الخارجية، لو أنه التفت إلى عورات الداخل المصرى، ولو أنه أنهى الثنائية المهلكة لوجود رئيس جديد يحكم بالنظام القديم ذاته، ولو أنه أقدم على ما هو حق وعدل، ووجه ضربة كبرى إلى تحالف البيروقراطية الفاسدة ومليارديرات النهب، ولدى الرئيس كل الملفات، ويملك أن يضاعف تفاؤل المصريين بنتائج مؤتمر شرم الشيخ، وأن يحوله إلى قوة دفع هائلة للعمل الوطنى، لو أنه أقدم على المواجهة المؤجلة، واسترد ثروات مصر المنهوبة، لا أن ينتظر فقط استثمارات خارجية بمئات المليارات، لا ينازع أحد فى احتياج مصر إليها، لكنها أى مصر تحتاج إلى استرداد نفسها، وإلى توليد الثقة بأن الاستثمار هذه المرة لن يكون بوابة نهب إضافية، وأن الاستثمار لن يتحول مجددا إلى «استحمار» واستعباد لغالبية المصريين.