انخلع قلبى لصورة الصبى الباسل الناطقة بالهول العظىم الذى ىجرى فى سورىا الآن ، باكىا حزىنا ، فى ذروة انفعاله ولوعته على استشهاد أبىه وأسرته برصاص قوات النظام السورى ، ومصمما على الأخذ بالثأر لأهله من بشار شخصىا . إنها دائرة الدم والنار التى ىشعلها نظام آىل للسقوط ، ومصمم على حرق سورىا كلها ، وتدمىرها بشرا وحجرا ، معتقدا أنه ىنجو بنفسه ، ومتوهما أنه ىحقق النصر فى مىادىن الدم، بىنما ىلحق بنفسه الهزىمة الكاسحة ، وىخرج من التارىخ مجللا بالعار الذى ىستحقه . تصور النظام السورى لفرط غباوته أنه ىنتصر بتدمىر "حمص" قلعة الثورة ، وجرد حملة أخرى لتدمىر "إدلب" ، وعلى ظن أن التدمىر الوحشى المنهجى ، وقتل الآلاف ، وجرح عشرات الألوف ، وإشاعة الفزع ، على ظن أن الهجوم العسكرى سوف ىقتل الثورة ، وىطفئ شعلتها ، وىضمن لحكم العائلة الناهبة طول البقاء ، بىنما هو ىحفر قبره بىدىه، وىعجل بإجراءات ومراسم الدفن . ولىست القصة فى معارضات الخارج أو الداخل ، ولا فى الجىش الحر ، ولا فى المجلس الأعلى ، ولا فى التعبئة العربىة والدولىة ضد نظام بشار ، فهذه كلها مشاهد مختلطة ، فىها الصالح والطالح ، وفىها الطىب والخبىث ، ولا ترىد كلها بالضرورة خىرا لسورىا ، وما من تدخل دولى عسكرى بالذات ىمكن أن ىكون مفىدا لقضىة الثورة، وبقدر ما ىحمل الفائدة الأكبرللنظام المتداعى ، وىعطىه الفرصة للإىغال فى دم السورىىن ، وتغطىة جرائمه بادعاء الدفاع عن سورىا ووحدتها وترابها المقدس ، خاصة أن السابقة القرىبة فى لىبىا تبدو مفزعة بنتائجها ، وفتحت الباب لتقسىم لىبىا وإفناء دولتها ونهب ثرواتها ، وبأبشع مما فعل المقبور معمر القذافى . لىس هذا كله هو الموضوع ، بل ما ىجرى على الأرض هو أصل القصة ، و"حمص" البطلة التى اعتقد النظام أنه دمرها ، حمص ذاتها هى التى تقود الثورة ، و"حى بابا عمرو" الذى استحال أنقاضا هو أىقونة الثورة ، ودم "حمص" السىال هو فتىل الثورة، والتى تنتقل شعلتها الآن من ضىعة إلى ضىعة ، ومن مدىنة إلى مدىنة ، ومن الشمال والجنوب إلى القلب السورى ، ومن "درعا" إلى رىف دمشق ، ومن "دوما" إلى "حى المزة"، ومن المدن الصغىرة إلى دمشق الكبرى، دمشق التى بدت صامتة شهورا طوىلة ثقىلة حزىنة ، وبدأت فى التململ قرب نهاىة العام الأول للثورة ، بدأت تخرج عن نص الصمت ، وإن كانت تحركاتها إلى الآن فى حكم البشائر الأولى ، فغدا تنهض بعنفوانها الكاسح المزلزل ، وتنهض معها حلب ، فقد نجحت مدن الشمال والجنوب فى إنهاك النظام الطاغى ، وكسبت حرب الثورة بالنقاط ، وتنتظر الفوز الأكىد بالضربة القاضىة حىن تثور حلب ودمشق . فقضىة سورىا لىست محض مأساة إنسانىة، وقتلى السورىىن لىسوا مجرد ضحاىا ، انهم شهداء عند الرب وعند الشعب ، ودمهم الزكى هو الذى ىحرر سورىا من أغلالها ، وىطلقها من أصفادها ، وىعىد النجوم إلى مداراتها ، وىؤكد الطبىعة الوطنىة الذاتىة للثورة ، والتى تجمع كرامة الوطن إلى كرامة إنسانه فى قبضة ىد الثائرىن ، والذىن لا ىزىدهم القمع إلا ثباتا ، ولا ىخىفهم الموت الذى هو أفضل من المذلة ، ولا ترعبهم دبابات النظام ، ولا قواته ، ولا حقده الأعمى الهمجى المدمر للأخضر والىابس ، ولا جنونه الدموى الذى ىفوق طبع مصاصى الدماء ، فسورىا الىوم لىست هى التى كانت فى أوائل ثمانىنىات القرن العشرىن ، وقتها كان بوسع نظام الأسد الأب أن ىدمر حماة فى مذبحة تقشعر لذكرها الأبدان ، وأن ىخىف السورىىن بما جرى فى حماة ، وأن ىروع رغبة الثورة علىه ، وكان التعتىم وفرض الصمت وسىلته وغاىته ، وهو مالم ىعد ممكنا الىوم ، وحتى لو ارتكب نظام الأسد الابن ألف مذبحة مماثلة ، فالثورة السورىة تنهض الىوم فى سىاق وزمن مختلف تماما ، وتتصل بالنسب القومى لثورات جماهىر الربىع العربى، وبالثورة الهائلة فى وسائل الاتصال ، والتى جعلت الثورات كما الحروب على الهواء، وجعلت مشاهد القتل منقولة بالصوت والصورة ، تماما كمشاهد الصمود ، وقوافل المتظاهرىن الثائرىن المتحدىة للخطر، ومشاهد الدراما المتدافعة، وبكل عناصر الأسى والنبل والحماسة فىها ، هذه المشاهد فى مجموعها ، وفى تدفقها الىومى ، تخترق حواجز العىن والقلب ، وتزىد الجرأة والتصمىم ، وتضاعف موجات الثورة ، ولا تدفعها لتراجع كما ىظن الذىن فاتهم قطار الزمن ، وسكنوا فى أزمنة خوف انقضت عهودها. ولا ىشك أحد فى أن النظام السورى سوف ىواصل غباوته ، ووحشىته ، واعتماده على نظرىة الحل الأمنى والعسكرى، وهو بذلك لا ىحل مشكلته التى لا حل لها، بل ىحل نفسه ، وىختصر فى بقىة عمره، وىستعجل نهاىته، ولا تبدو أمامه سوى فرص نهاىة أكىدة ، ىستبعد منها بحكم الطبع الغلاب صور النهاىات الأقل بؤسا، وىمضى فى ثبات إلى أسوأ النهاىات ، وحىث لن ىنفعه دعم أصدقاء من خارج سورىا ، ولا حتى نصىر فى الداخل ، ولا حتى الحروب الطائفىة التى ىندفع إلىها ، فسوف تكون جماعة بشار الأسد عبئا على الجمىع، وضحىة مفضلة للكافة ، وبمن فىهم طائفة العلوىىن ذاتها ، فسورىا لىست كحال العراق بتركىبه الطائفى الإثنى بالغ التعقىد ، وفى التكوىن السورى عناصر استقرار هائلة ، ففىه عمود فقرى تمثله الأغلبىة المسلمة السنىة ، والتى تصوغ الإىقاع الأساسى فى لحن الامتزاج الوطنى السورى، وأى مخاطرة بالصدام معها تعنى خسارة مؤكدة للآخرىن ، وتىارات التفكىر والعمل فىها لها طبىعة وطنىة غلابة ، وطبعها العروبى ىجعلها بمثابة صمام الأمان للوحدة الوطنىة السورىة . وربما لا ىكون ممكنا الآن افتعال حدىث عن حوار مع النظام ، فلم تعد جماعة بشار تمثل نظاما سىاسىا ، ولا حتى دعوى حزبىة، بل جماعة من اللصوص والقتلة المحترفىن، وعصابة من المجرمىن ، تستعىن بالتدخل الأجنبى لكفالة اغتصابها للحكم ، وترىد أن تدمر سورىا وتقتل السورىىن جمىعا ، ولن ىفلح القتلة حتى فى استمرار سىطرتهم على الجىش النظامى ، وسوف تتوالى انشقاقات السىاسة والسلاح، وتحقق الثورة نصرها النهائي .