في الوقت الذي تُنشر فيه هذه المقاله، تكون حمامات الدم في غزه قد توقفت و لو إلي حين، أما تداعياتها فتستمر. و لذلك قد يقول قائل: ما لنا و ما يحدث في العالم البعيد، و أن ما يهمنا هو ما يحدث بالقرب منا. و بالرغم من أن هذا الكلام يبدو في ظاهره منطقياً، فإننا في هذا العالم المعولم نتأثر بما يحدث بعيداً أكثر كثيراً مما نتصور. خذ مثلاً آثار الأزمة المالية – الإقتصادية علي معيشة المصريين، فإن أربع أسس علي الأقل من إقتصادهم سيتأثر الي الأسوأ. فأولاً قد يقل حجم المساعدات أو حتي الإستثمارات الأجنبية، كما قد تقل موارد قناة السويس بسبب تدهور حجم التجارة الدولية، و قد تقل موارد السياحة علي أساس أن تدهور إقتصاد الأجانب سيدفع بهم الي السفر أقل و حتي التضحية بأجازاتهم، كما أن تدهور الدخل النفطي – بسبب إنخفاض السعر و إنخفاض المبيعات – سيؤدي الي قلة تحويلات المصريين العاملين في الخارج أو حتي عودة جزء منهم ليضيفوا الي أعداد البطالة. الإرتباط بالعالم الخارجي لا مفر منه إذن. هذا العالم الخارجي يعاني من أزمة مالية كبيرة تطورت الي أزمة إقتصادية طاحنة، و قد أفاض الكثيرون منا في شرح أسبابها و تطورها من أزمة المجال العقاري، ثم الي البنوك و شركات الإئتمان العملاقة ثم الي قطاع السيارات و هكذا تتحول لضرب الإقتصاد الإنتاجي، ثم أفاض الكثيرون منا أيضاً لشرح أسباب هذه الأزمة بإسلوب مبسط لمساعدة غير المتخصصين علي تتبع أخبارها و محاولة فك طلاسمها. و لكن ما لم يتم تغطيته بل و حتي إهماله هو الآثار السياسية لهذه الأزمة المالية – الإقتصادية العالمية، و قد نقتصر علي أربع عوامل هامة: 1. بدأت الأزمة في الولاياتالمتحدة و في الواقع أزاحت الستار عن بعض عوامل الضعف في داخل هذا النظام العملاق، و لكن لم يتوقع الكثيرون تهاويه بهذه السرعة و الي هذه الدرجة كفقاعة تكبر و تكبر بدافع جنون المال و الإفراط في المغامرة و حتي المقامرة .. النتيجة لإنفجار هذه الفقاعة هو فقدان الثقة – داخلياً و خارجياً – في الولاياتالمتحدة كقطب أوحد يُهيمن تقريباً علي كل شيء و يأتمر الآخرون بأمره، و لعلنا نتذكر الإحتفالية الكبيرة التي حظي بها النمط الأمريكي بعد نهاية الحرب الباردة حتي أن بعض الخبراء أكد "نهاية التاريخ" – كما عبر عنها فرانسيس فوكوياما – الأمريكي ذو الأصول اليابانية. و لكن لا يجب الإسراف في التفاؤل علي هذا المستوي، و يسيطر التمني علي التحليل العلمي. نعم لن تكون الولايات القطب الأوحد الذي يعتلي عرش العالم و دون منافس. و لكن الولاياتالمتحدة ستكون رقم واحد. فهي لا تزال تمتلك حوالي %23 من الناتج الإجمالي العالمي، و كذلك حوالي %20 من مجمل التصويت في صندوق النقد الدولي و هو ما يعطيها قوة في الإقتصاد العالمي تعادل تقريباً حق الفيتو في مجلس الأمن. كما أنه في عالم المعرفة الذي يسيطر علي حياتنا هذه الأيام، فإن ما بين%70 و %80 من الحائزين علي جائزة نوبل في العلوم يأتون من الولاياتالمتحدة. بالإضافة الي كل أبعاد هذه القوة الناعمة، فإن الولاياتالمتحدة لا تزال في قمة هرم القوة العسكرية، فمثلاً ميزانيتها الدفاعية تعادل ميزانيات الدفاع للتسع دول التي تليها و مجتمعه. الولاياتالمتحده إذن و دون منازع رقم واحد، و لكنها إنزلقت من مكانة القطب اِلأوحد حيث كانت في قمة قمم و دون منافس. هذا الإنزلاق يؤدي الي النتيجة الثانية. 2. الحد من الإنفرادية المفرطةextreme unilateralism و بروز نوع من الدبلوماسية المتعددة الأطراف multi-lateralism . فقد أدي النصر الحاسم للسياسة الأمريكية في الحرب الباردة و إنهيار الإتحاد السوفييتي نفسه الي نوع من الغطرسه الأمريكية، بحيث أنها لم تكن مستعدة للسماع لأحد. و لا يزال الكثيرون منا يتذكرون ما قاله وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد لبعض الدول الأوروبية الذين لم يوافقوا علي الغزو الأمريكي للعراق: لقد نعتهم "بأوروبا القديمة"، أي المتأخرين و المتخلفين عن الزمن، و هو يتكلم عن دول ذات حضارة عريقة مثل فرنسا و ألمانيا. و لكن لمجرد تحفظهم علي قرار أمريكي ثبت خطأه فيما بعد، فكان لابد من مهاجمتهم و حتي إهانتهم. الولاياتالمتحدة مستعدة الآن لإعادة النظر في بعض سلوكياتها السياسية و الإستماع للآخرين. فمثلاً مع إشتداد وطأة الأزمة المالية، إجتمعت الولاياتالمتحدة مع مجموعة الدول الثماني ثم في مؤتمر مجموعة دول العشرين. 3. يرتبط بهذا الإنفتاح نحو الدبلوماسية متعددة الأطراف إعادة النظر في نمط الرأسمالية الأمريكية، و ليس بالضرورة النمط الرأسمالي ككل. قمثلاً هناك في الرأسمالية الأوروبية – من فرنسا الي بريطانيا و حتي دون ذكر الدول الإسكندنافية – بُعد إجتماعي هام، علي عكس الرأسمالية الأمريكية التي تسيطر عليها روح المنافسة الشرسة و الإيمان بحرية السوق المفرطة، و تقول الإحصائيات أن مبيعات الكتابات الماركسية – خاصة مجلد كارل ماركس الضخم – رأس المال – قد إرتفعت بحوالي %30، و يدل هذا علي محاولة كبح جماح السوق لكي لا تكون دون قيد و شرط، و محاولة تنظيم العملية الرأسمالية بعض الشيء. 4. و يرتبط بهذا الإهتمام بالتحكم في السوق عودة الإعتبار للدولة و الدعوة لوجودها، حتي في الولاياتالمتحدة التي تتميز بعدم الثقة في سلطة الحكومة و ترك القرار الأخير للفرد – المواطن -، و ما تدخل البيت الأبيض و الكونجرس لرصد بعض الأموال لمواجهه الأزمة إلا مؤشراً علي تحول واضح. ألا نتذكر الماضي القريب و كل هذه الإستشرافات عن إشتداد عود العولمة و إنسحاب الدولة و حتي إختفائها؟! الإتجاه إذن الآن الي الإهتمام بدور الدولة في الإقتصاد كوسيله لحوكمته governance أي تقريباً البوصله التي تساعده علي التوجه السليم و تجنب أن يفقد الطريق. و سنتأثر كثيراً بهذه الأفكار الجديدة. ألم أقل أننا جزء من هذا العالم و لا نستطيع الإنفصال عنه؟