كيف وقف المسيحيون مع مد امتياز قناة السويس؟ نجيب محفوظ شوقي وبطرس غالي قرن من الزمان مر علي مقتل بطرس باشا غالي. علي يد الشاب إبراهيم الورداني. وما زالت أسئلة الحادث مطروحة علينا تطلب الإجابة. الأسبوع الماضي وقع في يدي كتاب الأدب القبطي قديماً وحديثاً للباحث محمد سيد كيلاني. ماجستير من كلية آداب جامعة القاهرة. هكذا كان يكتب تحت اسمه. ومحمد سيد كيلاني من مظاليم مصر الكبار. ولا أعرف متي يتم إنصافه ويرد الاعتبار إليه. والكتاب نشرته دار الفرجاني، القاهرة، طرابلس، لندن. ومقدمة الكتاب موقعة: القاهرة في أول يناير سنة 1962، ولم تتم إعادة طبعه حتي الآن. وفي الباب السادس من الكتاب وعنوانه: الحركة الوطنية وأثرها في الأدب القبطي. والجزء الثاني من هذا الباب مخصص لمقتل بطرس باشا وأثره في الأدب القبطي. ومع اختلافي مع محمد سيد كيلاني في وصف القبطي والأصح أن نقول المسيحي باعتبار أن كل المصريين أقباط. يكتب محمد سيد كيلاني عن الحادث فصلاً كبيراً. لكني أتوقف أمام مؤاخذة الإخوة المسيحيين لأحمد شوقي. لأنه لم يقم برثاء بطرس غالي بعد اغتياله. مع أنه كان قد تغني به في حياته: - إن مقتل بطرس باشا الذي هز البلاد هزاً عنيفاً؛ لم يهز خواطر الشعراء المسلمين، ولم يحرك وجدانهم؛ والتزموا الصمت التام. ولم ينطق أحد منهم ببيت واحد يترجم فيه عن شعوره إزاء هذا الحادث. فما السر في ذلك؟ ألأن هذا الحادث من الحوادث التافهة التي تقع كل يوم فلا تحرك خاطراً، ولا تولد إحساساً؟ كلا، بل إنه كان أول حادث من نوعه في تاريخ البلاد. أجل! حتي شوقي شاعر الأمير لم يحرك خاطره هذا الحادث، ولم تحرك خاطره دمعة. وشوقي كان صديقاً حميماً للفقيد، وهو القائل: - في منازل غالي فزنا بصفو الليالي. لقد وفر علينا مرقس فهمي مؤونة البحث عن السر في جمود كبار الشعر إزاء هذا الحادث، فقال في إحدي خطبه: - «... تنازعنا في نسبة بطرس باشا: من منا خسره؟ أو من الذي كان يملكه؟ هذا يقول: بطرس للأقباط. وذلك يقول: إنه مسلم، لأنه بصفته ناظراً في الحكومة المصرية مدة خمسة عشر عاماً؛ كان شيخاً للأزهر في كل هذه المدة. ولم يكن له أي وظيفة شرعية عند الأقباط، فهو مسلم حكماً وعملاً، بل هو شيخ المسلمين!!" قسمت هذه المناقشة البلد إلي شطرين: أقلية تدعي أنها هي وحدها التي أصيبت في شخص الفقيد، فهي التي عز عليها المصاب، وهي التي يجوز لها أن تطالب بالعقاب. وهي التي يحق لها أن تراقب أعمال التحقيق، وتلاحظ عليه وهي التي تتألم لكل حركة تعتقد أن فيها إهمالاً لتقدير ذلك المصاب الجلل، أو جموداً في شعور الأكثرية، أو سكوتاً لا يتفق مع أهمية الحادث. أما الأكثرية - يعني المسلمين - فماذا كان موقفها؟" "أخبرني صديق منها أنه صمم علي تأبين الفقيد يوم الأربعين، معتقداً أن هذا أقل واجب يؤديه. فلما رأي هذه المناقشة خشي أن يحسب الناس منه ذلك نفاقاً ورياء؛ فعدل عن قصده نهائياً». هذا أحسن تفسير لذلك الشعور الذي قام في نفوس المصريين أمام هذه الجلبة التي لا تفهم. «قالوا في نفوسهم: بطرس ليس لنا، ولا هو منا. إذن لا يهمنا موته. لذلك جمدت قلوب الشعراء أمام هذا الحادث، وليس أسرع من تحركها أمام أصغر الوقائع وأقلها تأثيراً». لا شك في أن مرقس فهمي قد أصاب كبد الحقيقة، وكان منصفاً نزيهاً في قوله. ولا تعجب بعد ذلك إذا علمنا أنه لم يقف شاعر مسلم واحد في حفلة الأربعين ليؤبن الفقيد. وقد وجه الأقباط لوماً شديداً، وعتاباً مرا إلي شاعر الأمير. قال مرقس فهمي من خطب له: - «... بل كان هذا الخطأ - أي القتل السياسي - نفسه شيئاً جديداً تلتهب له غيرة شاعرنا الوطني، فيلقي علي النفوس المتألمة للقتل والوطن تسلية بشعره الهادئ التقي، ويطلب إلي القلوب المتنافرة أن تتألف، وإلي الصدور المجروحة أن تتصافي». «لم يفعل بل جمد وجدانه، وسكت لسانه؛ لمجرد أن فئة قالت: إن الفقيد لها، لا للأكثرية». وكتب قبطي آخر يقول «لعمرك لقد خان شوقي نفسه وهو يقول إنني رجل أخدم الوطن كلما عرضت حال، في خطابه إلي روزفلت. يكذبك الحال يا شوقي. وقد مر عليك موت عظيم مصر بطرس باشا غالي، وقد جمد إحساسك وجف شعورك في مقام العزاء لمصر. أولم تذكر صفو لياليك حيث قلت: - في منازل غالي فزنا بصفو الليالي. «عجباً لك يا شوقي! تذكر صفو الليالي، ولا تذكر كدر الأيام!» وقال كامل منصور معرضاً بالشعراء المسلمين: إن يحجم القوم عن نظم الرثاء له فقد رثاه النهي والعلم والأدب وإن تجف دموع عيونهم فدمع المجد مُنهل ومنسكب وإن دعاه الألي طائت عقولهم بظالم فأيادي عدله قشب هل حافظ قد عصته فيه قافية أم ابن هاني عراه الخوف والرهب ابن القصائد يا شوقي مدبجة من كل ضافية ما إن لها سبب؟ هل القريض عزيز أن تدبجه في فقد من الملا آراؤه شهب؟ أم الدماء التي سالت تروق لنا دم البرئ قلوب حوله تجب؟ دم البرئ ينادينا ألا اجتهدوا لا تغمضوا الطرف حتي ترفع الححب عندما يقول أمير الشاعر الشعر مضطرآ وقد اضطر شوقي إلي نظم قصيدة قصيرة جاء فيها: بني القبط، إخوان الدهور رويدكم هبوه «يسوعاً» في البرية ثانيا حملتم لحكم الله صلب ابن مريم وهذا قضاء الله قد غال غاليا ووالله لو لم يطلق النار مطلق عليه لأودي فجأة أو تداويا تعالوا عسي نطوي الجفاء وعهده وننبذ أسباب الشقاق نواحيا فلا يئنكم عن ذمة قتل بطرس فقد ما عرفنا القتل في الناس فاشيا وشوقي هنا يخاطب العقل، فيدعو إلي ترك العواطف الهوجاء. ويقول إن لكل مخلوق أجلاً معلوماً. وبطرس لم يمت قبل انقضاء أجله. ولو لم يقتله الورداني لقضي نحبه فجأة أو بعد فترة من المرض والعلاج. فإذا سلمتم بذلك يا معشر الأقباط، فلا داعي - والحالة هذه - إلي ذلك الصياح والعويل الذي ملأتم به أجواء الفضاء. وأنتم قديماً رضيتم بحكم الله في عيسي وهو الصلب بعد العذاب الشديد، فكيف لا ترضون بما حكم الله به علي بطرس؟ وأخذ يهون عليهم الأمر، فذكر أن القتل من الأمور الفاشية المألوفة منذ القدم. ولعله أراد أن يشير إلي قصة قابيل وهابيل. وقد نظم شوقي قصيدة رائعة في الاحتفال بالذكري السنوية لبطرس غالي، جاء فيها: قبر الوزير تحية وسلاما الحلم والمعروف فيك أقاما ومحاسن الأخلاق فيك تغيبت عاماً، وسوف تُغَيَّب الأعواما قد كنت صومعة فصرت كنيسة في ظلها صلي المطيف وصاما امتياز القناة وقبل حادث الاغتيال كان محمد سيد كيلاني قد تناول موضوع مد امتياز قناة السويس. وذكر أن المسيحيين جميعاً وقفوا مع المد وأن المسلمين وقفوا ضده.. كتب يقول: - وفي موضوع امتداد امتياز شركة قناة السويس وقفت الصحف الإسلامية صفاً واحداً تعارض هذا المشروع معارضة شديدة، في حين أن المسيحيين كانوا يؤيدونه. وقد كتب سلامة موسي مقالاً جاء فيه: - نحن في حاجة إلي نقابات زراعية ومدارس وخزانات وإصلاح أراض. فمن أين نأتي بأموال لهذه المرافق؟ وقد بلغت الضرائب أعلاها علي الفلاح وكادت تبهظه. «إنهم يعرضون علينا مبلغاً كبيراً من المال نحن في أشد الحاجة إليه. فلا يجب أن نرفضه حتي نقيم الحجة علي خسارة الصفقة فهل تري المبلغ قليلاً؟ أو نظن أننا نربح بدخول القناة في حوزتنا بعد انقضاء مدة الامتياز أكثر مما نربح بما عرض علينا؟». «فإن كنا نأمل مليماً واحداً من القناة حين وضع يدنا عليها بعد نصف القرن الآتي، فإنما نأمل القبض علي العتقاء. ولماذا؟ لأن الشركة الحاضرة تضرب الرسوم الفادحة معتمدة في ذلك علي قوة إنجلتراوفرنسا، لأن أكثر مساهميها من أبناء هاتين الدولتين. فهما يحميان القناة، ويلزمان كل من يأتي أن يدفع بالدفع والإذعان. فالقوة هي رأس مال القناة الحقيقي». «وإذا انتهي عقد الشركة ودخلت في حيازتنا؛ أبي أصحاب السفن أن يدفعوا مليماً واحداً لنا؛ وساعدتهم دولهم علي ذلك، وعجزنا نحن عن إلزامهم بالدفع. ومهما يقل فينا القوالون إننا أبناء الأهرام، وأشرف الخلق والأنام؛ فإننا نعجز ونعجز حينئذ عن رد أسطول ألمانيا حينما يريد المرور مثلاً مجاناً». «فالخطة المثلي الآن للفرد وللأمة هي خطة المصالح. ومصلحتنا أن تكون لنا قوة، أو نستند إلي قوة في استغلال هذه القناة. وليس ثم طريق مثلي لهذا الاستغلال إلا بالاستناد إلي قوة فرنساوإنجلترا بالاتفاق مع الشركة». انتهت القصة وأدعو القارئ لتأملها باعتبار أن التاريخ مدرسة التجارب الكبري. خصوصاً ما نردده ليل نهار عن وحدة الأمة وتجانس المسلمين والمسيحيين فيها. وذكر السنوات الأولي من القرن العشرين. باعتبارها المربع الذهبي للوحدة الوطنية. ثمة جرح في هذه العلاقة من الأفضل لنا أن نواجهه بشجاعة بدلاً من وضع الرءوس في الرمال. الجامعة العربية والعمل الثقافي عندما تعقد القمم العربية. أقول لنفسي: قمة تلد قمة ولا جديد تحت الشمس. لكن في زاوية من العقل. يتوقف الإحساس. أمام قضية قديمة جديدة. تقول حيثياتها: أين الثقافة في العمل العربي المشترك؟! وهذا السؤال لا يعد قفزاً في الهواء ولا التفافاً حول الموضوع ولكنه نابع من قراءة التاريخ القريب. لأن هذه الجامعة نفسها كان لها دور ثقافي مهم منذ سنوات نشأتها الأولي. وكانت هناك معاهد ثقافية مهمة تابعة لها. لعل من أهمها. معهد المخطوطات العربية الذي جري نقله إلي الكويت بعد توقيع السادات عن كامب ديفيد. كجزء من العقوبات التي فرضت علي مصر في ذلك الوقت. هل نسينا ترجمات شكسبير الكاملة وراسين الكاملة. وموليير الكاملة. والتي نشرتها إدارة الثقافة العامة. وكانت إحدي إدارات الجامعة، وكان المشرف عليها والمسئول عنها الدكتور طه حسين. ومازالت هذه الأعمال أو البعض منها في مكتبات دار المعارف. بل إن مشاركة الوطن العربي في معرض فرانكفورت الدولي للكتاب. تحولت لمشكلة. قبل أن تبدأ. وأذكر أنني كتبت منتقداً بعض أوجه القصور والتقصير. فحدد لي عمرو موسي موعداً في مكتبه وكان معي الدكتور حازم حسني. ولأن الرجل تصور أن مشكلتي مع المناسبة عدم دعوتي للسفر إلي ألمانيا رغم توافر الشرط الجوهري لذلك وهو ترجمة روايتي: الحرب في بر مصر إلي الألمانية. فقد بادرني قائلاً في لحظات اللقاء الأولي قائلاً: أنت ضيفي في هذه المناسبة. وقد اعتذرت له بصدق. لأن هدفي من الكتابة كان يخلو تماماً من البعد الشخصي أو الرغبة في الثأر الشخصي وللأسف فإن تلك صورة ذهنية عامة للمثقف في ما لانهاية. ما علينا. إنني كلما مررت أمام المبني المهيب. سألت نفسي: وأين العمل الثقافي العربي المشترك؟! هل يعقل أن يكون لدينا مجلس للوحدة الاقتصادية. ولا يكون لدينا مجلس كامل في العمل الثقافي وأن يكون لدينا مجلس دائم لوزراء الداخلية العرب مقره تونس. وهو المجلس الذي لم يخلف موعد عقد اجتماعه أبداً. ولم يحدث أن تخلف وزير عن حضوره. ولدينا أمانة دائمة لوزراء الإعلام العرب. ولكن لا توجد أي أمانة لا دائمة ولا مؤقتة لوزراء الثقافة العرب. لدينا أشكال عمل ثقافي عربي. مثل مجمع اللغة العربية. وثمة مجامع لغوية في بعض الدول العربية. ولدينا اتحاد للكتاب العرب. واتحاد للفنانين العرب. ولكن كل هذه الجهات تعمل منفصلة عن الأخري. سمعت مؤخراً أن هناك تأكيدًا في عمل مؤتمر بالتنسيق بين اتحاد الأدباء العرب وجامعة الدول العربية. وهو أمر أكثر من جيد. ثم ألا يمكن عقد قمة ثقافية عربية؟ هذا مجرد حلم. عيسى العصفور: كانت صديقة الأيام الخوالي الروائية الشاعرة الكويتية فوزية شويش. تحدثني بعد وفاة فؤاد زكريا. قالت - ضمن ما قالته - إنها لم تكن تتصل بالمرحوم فؤاد زكريا في العام الأخير من عمره. حتي لا يسألها عن صديقه الكويتي عيسي العصفور. فتضطر لأن تقول له إن عيسي العصفور قد مات. توقفت الجملة وسطنا. هل مات عيسي العصفور؟ ويأتي الاكتشاف الأكثر إذهالاً. مات عيسي العصفور منذ عام مضي. وتعطلت لغة الكلام. ثم أنهت المكالمة لتبدأ تأملاتي في حكايات الموت والحياة. بعد أيام. قرأت في العربي الكويتية مقالاً لعامر ذياب التميمي: عيسي العصفور رحيل متعجل. كتب عامر: إن الوفاة تمت في الثالث من مارس 2003، أما عن ظروف الوفاة فقد كتب: - كان عيسي مدعواً في مساء الاثنين لحضور حفل عيد ميلاد لدي أصدقاء له. وكان قد أحضر لهم تورتة كعكة ووروداً وركب سيارة أجرة. «كعادته منذ سنوات» وتوجه إلي هناك. ما إن وصل وحط رحاله لديهم. ووضع التورتة والورد علي الطاولة حتي سقط دون سابق إنذار ودون حراك. ليلقي وجه ربه. وهكذا توفي عيسي العصفور عن عمر ناهز الستة والستين عاماً. الموت هو الموت. هو النهاية المؤكدة للحياة. والميتة هكذا قد يتمناها أي إنسان لنفسه. الموت الذي يأتي فجأة بعيداً عن آلام المرض. ولا هموم الاحتضار وحيداً. في عالم لم يعد يأبه الناس أبداً. وعيسي العصفور لمن لا يعرف - ومن المؤكد أن هناك كثيرين لا يعرفونه - ظاهرة إنسانية. لا يدخل من ضمنها أنه كان مديراً لمكتب ولي عهد الكويت. ولكن لفرادة صفاته الإنسانية غير القابلة للتكرار. ولكي أقرب صورته للناس أقول إنه يوشك أن يكون بطل قصة: زعبلاوي. لنجيب محفوظ. يأتي فجأة وينصرف فجأة. يأتي بلا موعد. ويتركك بلا ميعاد. كائن ليلي لا يتحرك إلا في الليل. لا يطيق الوحدة. تحب الجلوس معه. حكاياته أحلي من حكايات شهرزاد. ورغم أنه كان صديقاً لكل المثقفين العرب. وكان يقرأ بنهم. لكنه لم يكتب حرفاً واحداً في حياته. كان يحمل حقيبة في يده يتحرك بها من مكان لآخر. مخترقاً ليل الكويت الصامت. ما تصورته إلا مستقلاً تاكسيا يمشي من هنا لهناك. وما فكرت فيه باعتباره ميتاً أبداً. رحم الله عيسي العصفور ورحمنا جميعاً. بلال فضل وسؤاله: في برنامجه المميز: عصير الكتب. سألني بلال فضل عن الظروف العامة التي عاشها الدكتور فؤاد زكريا. وأعده أن أحاول الكتابة. ولو أنني كتبت الآن عن فؤاد زكريا. فإن هذه الكتابة ستأتي تحت مفهوم حدده طارق البشري في كتابه الجماعة الوطنية العزلة والاندماج. كتاب الهلال أبريل 2005، عندما كتب في إطار تقييمه للدكتور وليم سليمان قلاده: - وللموت أثر عجيب في تقييم الرجال. به ينتهي العمر. وعلي الفور تبدو حياة الشخص كلها مبسوطة أمام الأحياء. فلا يعود يشغلهم حاضره القريب فقط. ونوع المسائل التي ينشط فيها. إنما صار كل نشاطه علي مدي العمر كله حاضراً مبسوطاً بمفرداته كلها وبأفكاره كافة. ومن هنا تبدو جملة الأثر المنتج. سيدة الشاشة لم تقصد: تتصور الأستاذة سماح عبد السلام أن ما قالته لي سيدة الشاشة العربية فيه تكذيب لها. والحقيقة أنني وفاتن حمامة لا نشك لحظة واحدة في صدق كل حرف كتبته الأستاذة سماح. ولو أنها قرأت ما قالته لي فاتن حمامة الذي يوشك أن يكون درساً في التعامل الإنساني بعيداً عن معارك كل يوم. لما كلفت نفسها عناء الاتصالات الليلية من أجل كتابة هذا الإيضاح. قالت فاتن حمامة: لم أقصد القول. أي أنها لا تكذب الأستاذة. ولكن توضح أنها لم تكن تقصد. فهل هناك ما هو أكثر دلالة من عبارة سيدة الشاشة العربية التي اتصلت بي لتوضح لا لتكذب. ولتشرح لا لتنفي ما سبق أن نقلته الأستاذة سماح. إليها .يا أنا..
قلت لك إننا عندما نعاني من العطش ونبحث عن الماء ونتخيل أننا نشرب، فإننا لا نشرب من أباريق زماننا سوي العطش. وشراب العطش لا يروي. شراب العطش مثل الجري وراء السراب في الصحاري التي لا حدود لها. السؤال كالطريق يهجم علينا. يحاول اقتحام خلوتنا. يفرض نفسه علينا. نمتص عروق الوقت. كانت تحاورك الأشجار والعصافير. يلمع صوتك وراء ظلال النهار الهارب. كدنا أن نسمع همسات أشجار الشوارع. قلت لي: أشجار من الأسمنت. تساءلت أنا: كيف تنبت الأشجار في الأسمنت؟ أيتها الإنسانة الغالية. أقول لك حكمة نجيب محفوظ الخالدة في كل سطر من رواياته. نطق بها معظم أبطاله: إذا لم يكن ما تريد فأرد ما يكون. تستفهم ملامح وجهك. تحاولين قراءة ما وراء الكلمات. هل كانت هواية؟ أقول لك إن العامة يرددون: الرضا بالمقسوم عبادة. تساءلت: هل يعاني الهواء حولك من النقصان؟ انبهرت بجمالك؟! نعم. شدني إليك كلامك الغامض في البدايات الأولي؟! ربما. عمق صوتك الموشي بالظلال العميقة التي تشع من ابتسامتك الممتدة مثل المدي؟ جائز. قاومت الكلام الكبير. قلت بصيغة قريبة من الإعتراف أنك لا تدرين الكثير من أمور الدنيا. مع أنك كنت تعرفين جيداً ما تريدين. كانت معجزتك ومازالت إصرارك علي أن تكوني ذاتك.