"أنا قبل قرون/ لم أطرد من بابي زائر/ وفتحت عيوني ذات صباح/ فإذا غلّاتي مسروقة/ ورفيقة عمري مشنوقة/ وإذا في ظهر صغيري.. حقل جراح/ وعرفت ضيوفي الغدارين/ فزرعوا ببابي ألغاما وخناجر/ وحلفت بآثار السكين/ لن يدخل بيتي منهم زائر/ في القرن العشرين". تختزن ذاكرته آلاف الصور لوجوه فلسطينيين تتغذى أرواحهم على المقاومة، يحفظ عن ظهر قلب أسماء من ماتوا وهم يعرفون أنهم حلقة تتصل بأخرى تتصل بثالثة من أجل كتابة مشهد الخلاص الذي لن يجيء في حياتهم، سوف يموتون دون أن يكتبوه لكنهم يدركون أنهم المحطة التي يجب أن يعبر الفلسطينيون عليها في طريقهم إليه. سميح القاسم أحد هؤلاء، كتبهم وكتب نفسه واحدا في صفوفهم، يلملم أشلاءهم كلما دوت قذيفة، ويرمم جدران منازلهم كلما انتهى قصف، ينظف شوارع المدينة من فوارغ الرصاص وبرك الدم، ويشيح بيديه مقاوما غبار المطاردات التي تخلفها أحذية الجنود السميكة ونعال رجال المقاومة المهترئة، ولا يصم أذنيه عن لهاث المطاردين والأنفاس التي تتردد في الصدور لا تهدأ ثورتها ولا تقل حرارتها. وحين تهدأ الأجواء قليلا، يعود ليكتب فصولا من تاريخ صراع فسلطين والاحتلال ليخلف وراءه نحو 70 عملا أدبيا بين الشعر والرواية والمسرحية والكتابات النثرية والمترجمة، حيث منعه الموت من مواصلة توثيق الصراع والمشاركة في المقاومة في 19 أغسطس 2014، بعد صراع مع سرطان الكبد. في الحادي عشر من مايو عام 1939، رزق ضابط فلسطيني ينتمي لعائلة درزية يعمل بمنطقة حدودية شرق الأردن، بطفل أسماه سميح، ولد سميح وولد معه الصراع، الحرب العالمية الثانية على وشك البدء، العالم كله في حالة حرب بينما يشهد ساحل البحر المتوسط صراعا آخر سوف يفني سميح حياته من أجله، صراع على أحد أكثر الأشياء التي ينتمي إليها البشر ماديا ووجدانيا: الأرض، حيث أعلنت إسرائيل نفسها دولة عام 1948 بينما كان سميح يزحف نحو عامه التاسع ويتلقى تعليمه في مدارس الناصرة، ويتهيأ لأن يكون أحد أعظم شعراء فلسطين وأعلاهم صوتا في المقاومة ورفض الاحتلال، إلى جانب محمود درويش. "ولدت ومهدك أرض الديانات/ مهد الديانات أرضك/ مهدك لحدك/ لكن ستمكث في الأرض تلفحك الريح طلعا على شجر الله/ روحك يسكن طيرا/ يهاجر صيفا ليرجع قبل الشتاء بموتٍ جديد/ وتعطيك قنبلة الغاز إيقاع رقصتك القادمة/ لتنهض في اللحظة الحاسمة/ أشد من الماء حزنا/ وأقوى من الخاتمة". هكذا يروي سميح القاسم سيرة الأرض التي تخطى أهلها فكرة الانتماء للوطن والتراب، إلى بعد آخر يرتبط بكونها مهد الأنبياء الذي يعاني منذ سنوات تحت نيران الاحتلال التي لا تكسر الفلسطينيين بل تصنع إيقاعا للرقص. الشاعر الذي توفى بعد 74 عاما من التحدي، نال تقديرا كبيرا على جميع الأصعدة الجماهيرية والنقدية وحتى على مستوى الجوائز في الوطن العربي وأوروبا، حيث نال جائزة غار الشعر من إسبانيا، وكذلك جائزتين من فرنسا عن أعماله المترجمة إل الفرنسية، وجائزة نجيب محفوظ من مصر، بالإضافة إلى وسام القدس للثقافة، وجائزة البابطين في الشعر، كذلك لم تعرض أكثر من مرة للسجن والإقامة الجبرية ردا على نشاطه السياسي حيث كان عضوا في الحزب الشيوعي. لعل أبرز ما اشتهر من كتابات القاسم، تلك القصيدة التي لحنها وغناها الفنان الفلسطيني الكبير مارسيل خليفة، والتي يقول في مطلعها "منتصب القامة أمشي/ مرفوع الهامة أمشي/ في كفي قصفة زيتون وعلى كتفي نعشي"، وهو ليس التعاون الوحيد بين القاسم وخليفة، الذي قال عشية رحيل صديقه الشاعر إننا نحتاج اليوم كوفية سميح كي نمسح بها ما نذرفه من دمع على الحاضر الحارق، فقد تقرحت قلوبنا من عفن القتل والاحتلال ومن تعب الأسئلة.