تصنع المدن الكبيرة سكانها، وتخط لهم مسارات الحياة التى يتحركون فيها، وتفرض عليهم الكثير من التحديات وتمنحهم أيضا بعض الفرص وتقبل دوما بتعرجات سيرهم الذاتية وقد تتسامح مع بعض خطاياهم وإخفاقاتهم. «فيكتوريا»، وهو فيلم ألمانى حصل على جائزة الدب الفضى فى مهرجان برلين السينمائى الأخير وتدور أحداثه حول شابة إسبانية تعمل نادلة فى مقهى فى العاصمة الألمانية وتتعرف خلال سهرة على أربعة من الشباب الألمان الذين يعيشون فى المدينة بين عوالم شديدة الاختلاف هويتها الفقر والبطالة والجريمة المنظمة والكثير من البحث عن السعادة والرغبة فى الحب وتحقيق الذات والهروب من الواقع الاقتصادى والاجتماعى الضاغط عليهم وتنتهى سهرتهم على نحو مأساوى، يذكر المشاهد بهوية المدن الكبيرة ومسارات حياة سكانها. وبجانب التميز الإخراجى للفيلم الذى صنع بتقنية اللقطة الواحدة أو اللقطة المستمرة (مدة الفيلم هى 138 دقيقة) وتميز الأداء التمثيلى لأبطاله الشباب وسرعة إيقاع وجمالية كاميرته التى تتحرك بين أماكن خارجية شديدة التنوع والثراء، يطرح فيكتوريا تحديات شباب المدن الكبيرة والفرص المتاحة لهم ويسجل قدرتهم على الاختيار بالرغم من ضغوط الفقر والبطالة والجريمة المنظمة ويمتنع عن إلغاء ذاتيتهم ويبتعد تماما عن منهج «الوعظ السينمائى» وعن سينما «الدروس المستفادة» وعن مدارس توظيف الفن والإبداع «لهندسة المجتمعات» وإعادة صياغة الأنساق القيمية والأخلاقية للناس عبر تكثيف «العبر المستخلصة» من حياة الساقطات والساقطين ومن تهمشهم المدن بفعل الخطايا. لا شىء فى فيكتوريا من ذلك، بل قبول لتعرجات السير الذاتية ومنح للفرص وتسامح ونهايات مأساوية دون أحكام أخلاقية مسبقة ودون فرض لقراءة أحادية لثنائية الخير والشر على المشاهد. فيكتوريا يقدم حالة إبداعية رائعة، واحتفاء بفن السينما دون وعظ أو عبر، وتقدير لحياة المدن الكبيرة وسكانها من الفقراء والعاطلين والمتورطين فى الجريمة المنظمة دون تقييمات أو أحكام مسبقة. تذكرت أعمال مخرجين عظيمين رحلا عن عالمنا، المصرى عاطف الطيب والألمانى راينر فيرنر فاسبندر.