تبدأ في فرنسا، اليوم، الجولة الأولى من انتخابات المجالس الإقليمية والتي يتوقع أن يحقق فيها الحزب اليميني المتطرف، الجبهة الوطنية، تقدما ملحوظا في ظل التراجع المستمر في شعبية الحزبين التقليديين في فرنسا، وهما الحزب الاشتراكي الحاكم وحزب الاتحاد من أجل الحركة الشعبية. وتنظم انتخابات المجالس الإقليمية كل ست سنوات بهدف تجديد أعضاء ورؤساء تلك المجالس التي تقوم بتسيير الأقاليم الفرنسية البالغ عددها 101 إقليم.. وتهتم هذه المجالس بالسياسات ذات الطابع الاجتماعي مثل الرعاية الاجتماعية الخاصة بكبار السن أو ذوي الإعاقة أو الأطفال المشردين، كما تهتم بخلق فرص عمل للشباب وإقامة مشروعات تربوية في الأقاليم فضلا عن إنشاء البنية التحتية والمشروعات الخاصة بالطرق ووسائل النقل العام، وتخصص لهذه المجالس موازنة تزيد على 75 مليار يورو سنويا. ورغم أن هذه الانتخابات لا تحظى عادة بإهتمام في المشهد السياسي الفرنسي غير أن هذه المرة تختلف عن سابقاتها حيث ينظر إليها الرأي العام الفرنسي باعتبارها اختبارا حقيقيا لقوة الجبهة الوطنية على الساحة السياسية ومؤشرا قويا للانتخابات الرئاسية لعام 2017. وتظهر مختلف استطلاعات الرأي التي أجريت مؤخرا تصدر حزب الجبهة الوطنية للمشهد الانتخابي بعد حصوله على 30% من الأصوات متقدما على حزب يمين الوسط، الاتحاد من أجل الحركة الشعبية، الذي نال 29% من الأصوات بينما جاء الحزب الاشتراكي في المرتبة الثالثة بعد حصوله على 19% فقط من الأصوات. ومع الإقرار بأن حزب الجبهة الوطنية بزعامة مارين لوبن لن يكون الحزب الذي يحصد أكبر عدد من الأصوات في هذه الانتخابات غير أن المتابعين للشأن الفرنسي يرون أن مجرد تواجده على الساحة بهذه القوة خلال الحملة الانتخابية قد أكسبه زخما كبيرا واعتُبر انتصارا محسوبا لصالحه. فمن ناحية نجح الحزب في استغلال التراجع الملحوظ في شعبية الحزب الاشتراكي الذي خيب آمال المواطنين وأثبت عجزه عن مواجهة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية في البلاد.. ورغم صعود نجم الرئيس فرنسوا أولاند عقب الاعتداءات الإرهابية التي تعرضت لها صحيفة "شارلي ايبدو" في يناير الماضي وزيادة شعبيته وحسن إدارته للأزمة غير أنه لم يتمكن من الحفاظ على هذه الشعبية نتيجة عدم قدرته على احتواء أزمات الدولة وعلى رأسها معدلات البطالة. من ناحية أخرى، ظل حزب يمين الوسط، الاتحاد من أجل الحركة الشعبية بزعامة نيكولا ساركوزي، في موقعه التقليدي الذي يركز اهتمامه على انتقاد سياسات اليسار الحاكم دون تقديم نموذج اجتماعي جديد يستطيع إيجاد حلول جذرية وفعالة للمشكلات التي يعاني منها المواطنون. وهنا تمكن حزب الجبهة الوطنية من البروز على الساحة السياسية وجذب شريحة كبيرة من الشعب الفرنسي، لاسيما هؤلاء الذين يقطنون الأرياف الفرنسية ويعانون من البطالة وتدني مستوى المعيشة حيث طرح نفسه باعتباره الوحيد القادر على احتواء مشكلات المواطن الفرنسي من خلال التركيز على القضايا الاقتصادية والمشكلات الاجتماعية في البلاد. ويبدو أن ارتفاع أسهم الجبهة الوطنية وزعيمته لوبن قد أثار قلق المعسكر الاشتراكي.. ففي حوار له مع صحيفة "لوباريزيان" في مطلع الشهر الجاري، دعا الرئيس أولاند إلى عدم التصويت للجبهة الوطنية في الانتخابات الإقليمية الجارية لأنه اختيار خاطئ ويحمل أفكاراً غير جمهورية لن تحل مشاكلهم. من ناحيته أعلن رئيس الوزراء مانويل فالس أكثر من مرة خلال الدعاية الانتخابية أن اليمين المتطرف أصبح يقف على أبواب السلطة وأنه يجب الأخذ على محمل الجد إمكانية أن يصل نفوذه إلى قصر الاليزيه وحذر من خطورة فوز الجبهة الوطنية معتبرا أنها خطر على فرنسا وفوزها سيؤدي إلى زرع الفتنة بين الفرنسيين ولن يقدم حلولا لمشكلات المواطنين. ويعتبر كثير من المراقبين أن دعوة الحزب الاشتراكي إلى عدم التصويت للجبهة الوطنية يصب في مصلحة لوبن، فبدلا من التركيز على ما يمكن أن يقدمه الحزب من حلول لأزمات البلاد يولي رئيس الدولة ورئيس حكومته اهتماما خاصا بتوجيه الانتقادات لحزب آخر ودعوة المواطنين إلى عدم التصويت له، وهو ما اعتُبر دليلا على زيادة ثقل الجبهة الوطنية على الساحة السياسية وشعور الحكومة بالخطر من تزايد شعبيتها. وتعتبر انتخابات المجالس الإقليمية هي ثالث اختبار انتخابي لليمين المتطرف في عهد الرئيس أولاند، فكان الاختبار الأول في الانتخابات المحلية في مارس من العام الماضي وتمكن خلالها حزب الجبهة الوطنية من الحصول على 14 بلدية في سابقة من نوعها وانتزع من الحزب الاشتراكي عدد من البلديات التي كان يسيطر عليها لسنوات طويلة.. أما الاختبار الثاني فكان في الانتخابات الأوروبية التي جرت في مايو الماضي، وتصدر خلالها الحزب النتائج بعد حصوله على 25% من الأصوات متقدما بذلك على حزب الاتحاد من أجل الحركة الشعبية الذي حصل على 20% من الأصوات والحزب الاشتراكي الذي حصل على 14% فقط. ويتفق المراقبون على أنه في حالة فوز الجبهة الوطنية بعدد من المجالس الإقليمية خلال الجولة الثانية من الانتخابات، والتي من المقرر عقدها يوم 29 من مارس الجاري، فإن ذلك سيعتبر بمثابة تمهيد لصعود لوبن إلى جولة الإعادة في انتخابات الرئاسة لعام 2017 ونهاية للثنائية الحزبية التي عرفت بها البلاد. فالمواطن الفرنسي لم يعد يخشى من أفكار اليمين المتطرف وهو ما برهن عليه من خلال التصويت لصالحه في الانتخابات سالفة الذكر حتى أفكاره الخاصة بمكافحة الهجرة والمهاجرين قد ثبت أنها على حق لدى كثير من المواطنين بعد التهديدات الأمنية التي تعرضوا لها في أعقاب أحداث "شارلي إيبدو".. كما أن محاربة السياسات الأوروبية، والتي هي محل انتقاد دائم من الجبهة الوطنية، قد وجدت مردودا لها بسبب فشل السياسات الاقتصادية للحكومة وعدم قدرتها على الحد من البطالة.