عبثا نسميها صداقة، وأى صداقة هذه وطرفاها مجاذيب، نتحايل على البقاء معا لمدة أطول بإدعاءٍ يجعل علاقتنا لها شرف ويمنحها ميثاق، يمنحها قربا ما دون حرج، يجعلنا نفتح قلوبنا ونحكى عن أنفسنا دون الشعور بالحرج. إضافة على «موقع الفيس بوك» وتبادل أرقام الهاتف وأحاديث طويلة، شعُرت فجأة أنه لأول مرة يُحب، أنه لأول مرة يشعر بهذا الاحتياج الذى يجعله يرتمى بثُقل سنوات عمره فى قلبى.. أن أكون أول امرأة يترك حكاياته للسرد معها كأنه يتخلص من ماضيه فى مكالمة، عندما قام بالاتصال بى بعد منتصف الليل قائلا: هل تسمحين أن تكونى حائط مبكاى الليلة؟ تحلو دائما الاعترافات فى الليل، أحتاج لأن أترك عندكِ كل ذكرياتى، واُحب منك أنكِ دوما تمنحيننى هذا الأمان، والثقة، والكثير من تقبل الخطايا وسخونة الاعترافات. وأخذ يحكى... يحكى كثيرا وتلك الدمعة التى تستقر فى عينيه دون أن ترتاح على خديه عندما يتحدث عن والدته.. ووالده الذى تركه ضعيفا لأنه كان «مسئولية» لم يُرد أن يتحملها، فتركه لوالدته تربى فيه هذا الرجل الناجح، لكن بقى جزء فيه لا يستطيع أن يُخلص لأى امرأة.. هذا كان إرثى من أبى الذى أخلص لنفسه فقط!. بعد وفاتها ترنحتُ فى أحضان النساء بحثا عن أمى، بحثا عن تلك الراحة التى لم أعرفها يوما إلا معك.. وبحثا عن لمعة عينيها، ذلك الضوء الذى يحمل حنان الدنيا مع لمحة حزن تُغلفها الكرامة تجعلك تظن أنها امرأة من غرور، لكن لم ير انكسارها أحد.. تلك المراة التى رفضت أن يكون لها رجل غيرى فأخلصتُ لها رغم محاولاتها لتزويجى حتى لقت ربها.. وارتميتُ أنا فى الدنيا شريدا تحملنى مقولة «درويش» بينما يشدو «مارسيل خليفة» داخلى فى شجن مستمر «أحنُّ إلى خبزِ أمّى.. وقهوةِ أمّى.. ولمسةِ أمّى.. وتكبرُ فيَّ الطفولةُ يوما على صدرِ يومِ». أتذكرين عندما قُلتِ لى «لم تحب أحدا».. الحقيقة كنت فى حاجة لمن تمسك بيدى وتعبر بى الطريق تماما مثلما ظلت أمى تفعل حتى بعد أن تخطيت الثلاثين.. الحقيقة أننى كنت أدفن رأسى فى صدر كل امرأة أريد منها حكاية قبل النوم، أنا لستُ معقدا بتلك العقدة الأوديبية، ولست فى حاجة لجلسة تحليل نفسى يقوم فيها أحد أحفاد «سيجموند فرويد» بتشريح قلبى وانفعالاتى وتفسير أحلامى.. كل إنسان فى الدنيا يبحث عن فتاة يجد فيها شيئا من أمه، مثلما ترى كل امرأة فى أبيها هذا الشخص المقدس الذى تحاول أن تجعل حبيبها صورة طبق الأصل منه فى كل شىء هيئته، هيبته، هدوئه، اتزانه، وقاره، نحن لسنا مرضى، نحن نحب فطرتنا النقية أكثر من اللازم، ونحب من لازالوا على فطرتهم السليمة، أتعرفين.. أنتِ أول امرأة أرى فيها أمى.. أول امرأة أرى فيها ذات النظرة التى سكنت مقلتيها دوما.. أتعرفين متى رأيتُ فيكِ أمى..؟ يوم أن جئتِ تتحدثين عن سبع وعشرين سيجارة أحرقتُ بها صدرى فى جنون.. لحظة عودتك لى مرة أخرى بعلبة سجائر تالفة لتحدثينى، ويوم أن جئت للمرة الثالثة بثورة اللون الوردى فى فصل الربيع على كل ليالى الوحدة الباردة لفصل الشتاء.. أأنت معى؟.