أخطر ما يعترض المستقبل المصرى أنه بلا خطة عمل تقود الخطى إليه وأن تآكلا بطيئا ينال من الرهانات الكبرى التى صاحبت (30) يونيو وما بعدها. بنظرة خاطفة على المجال العام فإن منسوب القلق يكاد يتجاوز معدلات أمانه والتساؤلات الحرجة تخرج من مكامنها. القلق بذاته طبيعى، ففى التحولات الحادة توقعات تفوق القدرة عليها وأوضاع مضطربة تحتاج إلى وقت حتى تستقر حقائقها لكن ما هو غير طبيعى أن الحوار معطل بينما الضرورات تستدعيه والسياسة خارج الخدمة بينما الأزمات المستعصية تضغط على أعصاب البلد المنهك. فى ضباب التساؤلات القلقة لا إجابات تقنع أو إشارات تطمئن. هناك خياران رئيسيان حتى الآن، أولهما، «تقديس العمل» وهو بطبيعته من مقومات أى إنجاز أو مواجهة أية أزمة، غير أنه بلا خطة عمل مقنعة يتحول إلى طقس بيروقراطى يتحدث عن العمل بأكثر مما يعمل. القضية ليست متى يذهب الوزراء إلى مكاتبهم بل فى مدى كفاءة الأداء العام وفق الخطط المقررة.. فى القدرة على الإنجاز لا فى إثبات الحضور المبكر أو مداهمة مواقع العمل كروتين يومى دون أن تفضى الجزاءات التى توقع إلى تحسين الخدمات. ما يستحق التوقف عنده أن التخطيط غائب والإصلاح المؤسسى خارج الأولويات. ثانيهما، «النوايا الحسنة» وهذه تؤكد الثقة العامة فى الرئيس لكنها وحدها لا تؤسس لسياسة جديدة تخترق الملفات الصعبة. فى تبرعه بنصف راتبه ونصف ثروته لصندوق يساعد الاقتصاد المصرى على الخروج من أزماته رهان أخلاقى على فضيلة «التبرع» لا على أدوات الدولة وأدوارها.. على جماعات رجال الأعمال التى توافرت لها ثروات مليارية على عهد الرئيس الأسبق «حسنى مبارك»، لا على قواعد المحاسبة القانونية لمن يثبت بحقه فساد، فالتبرع ليس إرغاما ولا إحراجا لرجال أعمال بعينهم لضخ بعض ما جنوا بغير حق فى الصندوق. فكرة التبرع الطوعى طرحها لأول مرة أثناء حملته الانتخابية فى اجتماع ضمه إلى بعض ممثليهم الذين لم يتحمسوا لها إلا أنها استقرت عنده. بتكوينه الشخصى لن يتراجع بسهولة. لا يبحث عن صدام داعيا إلى «نوايا حسنة» مماثلة لكنه فى النهاية سوف يواجه الحقائق ويصطدم. من جانبهم فإن رجال الأعمال الكبار مالوا إلى المبالغة الكلامية فى مدح الرئيس ومبادرته والإحجام الفعلى عن ضخ أى أموال فى الصندوق. راهنوا على اكتساب الوقت حتى تبهت المبادرة ويزوى ضجيجها. فى بعض ما قالوه منطق له وجاهته، فالمهمة الأساسية لرجال الأعمال ضخ استثمارات فى الأسواق وفتح المصانع المغلقة وتشغيل الأيدى العاملة وأن الاقتصاد لا يبنى على تبرعات «النوايا الحسنة» أو بالإحراج السياسى والمزايدة عليهم وبينهم، غير أن هناك تساؤلات فى صلب ما قالوا عن طبيعة ثرواتهم وكيف تراكمت فى سنوات قليلة وإلى أى مدى شابتها وقائع فساد. القانون هنا هو الحكم وأسوأ سيناريو ممكن أن ينظر للتبرعات كباب لإبراء الذمة من المساءلة القانونية أو بابا للاستجداء فى سيناريو آخر. المثير للالتفات أن التبرع الطوعى لم يلهم المواطن العادى على ما اعتاد فى حالات أخرى ربما انتظارا أن يرى بعينه حجم ما يتبرع به كبار رجال الأعمال ولا المصريون فى الخارج سارعوا للمشاركة للسبب نفسه وباستثناء القوات المسلحة وبعض الشخصيات العربية والمصرية فإن الحصاد أقل من كل التوقعات. المبادرة تفارق ما تحتاجه مصر فى أن تكون هناك خطة إنقاذ اقتصادى تخضع لحوار عام وتوافق وطنى تهيئ المجتمع لتحمل جراحات كبرى. الأجدى أن يبادر هو بإعلان دعوته لمؤتمر اقتصادى يضم كافة الخبرات المصرية من المدارس المختلفة للبحث فى توافق وطنى ممكن لخطة إنقاذ وأن يعرف المواطن العادى التكاليف مقدما ويتأكد أن الفئات الأكثر فقرا وعوزا لن تتحمل أعباء جديدة. حسن النوايا بلا خطط معلنة كلف الرئاسة شيئا من الرهان عليها، فالناس تطلب أدوات الدولة العادلة القوية التى تحترم القانون ولا تتهاون مع الفساد ولا تستجدى التبرعات. هناك ضرائب تفرض على الثروة وضرائب تصاعدية منصوص عليها فى الدستور وإجراءات ممكنة تلغى كافة صور الدعم عن الأثرياء وأهمها دعم الطاقة لأصحاب المصانع الكبرى ومواجهة جدية مع كافة ملفات الفساد تعيد الحقوق إلى أهلها وفق القواعد القانونية فلا أحد يلقى الاتهامات جزافا بالجملة. الأخطر من ذلك كله أن تكاليف الإصلاح الاقتصادى بدأ يتحملها المواطن العادى عبئا فوق آخر فى ارتفاع أسعار السلع والخدمات دون أن يكون واضحا أمامه أية إجراءات اجتماعية تخفف من وطأة معاناته. لا أحد يفكر تقريبا فى العدالة الاجتماعية أو شبكة الضمان الاجتماعى آو فى وقف التدهور الصحى والتعليمى. كل شيء مؤجل بينما رفع الأسعار يداهم البيوت الفقيرة والأثرياء الجدد يمتدحون مبادرة الرئيس دون أن يبادروا بأية التزامات جدية. وهذا وضع قد يكلف الرئاسة شعبيتها، فالناس راهنت عليه لرفع المظالم وإقامة العدل، أن يكون رجلها وسيفها، وأخطر كمائنه عدم حسم توجهاته وسياساته.. أين هو ومع من يقف؟ حتى الآن لم يعلن برنامجا أو يطرح مشروعا مكتفيا بتعهداته العامة فى خطاب التنصيب، وهى إيجابية إلى حد كبير فى وحدة ثورتى يناير ويونيو والالتزام بالعدالة الاجتماعية والحريات العامة غير أنها لم تتبد فى سياسات معلنة أو خطط عمل أو إشارات ضرورية لإشاعة طمأنة عامة بقرب الخروج من الأزمة بكل ملفاتها. هناك ضرورة لتعديل قانون التظاهر وفق ملاحظات المجلس القومى لحقوق الإنسان والإفراج عن المحكومين لفتح صفحة جديدة بين الدولة وشبابها، تتجاوز الجماعات المسيسة إلى الأجيال الجديدة كلها التى تعانى إحباطا مزدوجا سياسيا واجتماعيا. وهناك ضرورة أخرى لحزمة إجراءات اجتماعية تثبت ولاء الرئاسة لشعبها وأن نواياه المعلنة قابلة للتحول إلى سياسات تنتصر للطبقة الوسطى والطبقات الأخرى الأكثر فقرا. فى الملفين الشبابى والاجتماعى تواتر أن عزمه كان قد انعقد على إعلان إجراءات تفتح صفحة جديدة وتطمئن على اتجاه التغيير القادم، لكنه لأسباب غير معلنة أجل قراراته والتأجيل لم يعد فى صالحه فكل يوم يمر يسحب من رصيد الرهان عليه. وهناك ضرورة ثالثة لفتح قنوات الحوار المغلقة مع القوى السياسية وبناء الثقة العامة على أسس جديدة. معضلته، ومصر تستقبل عامها الثانى بعد ثورة يونيو، أن كل الملفات مفتوحة وأنها بلا استثناء لا تقبل تأجيلا، وأن الإخفاق ممنوع فمصر لا تحتمله.