يمشي المواطن في شارع قصر العيني باتجاه ميدان التحرير. يصل إلى مجلس الشورى ليصطدم بجدار أسمنتي ضخم، رمادي اللون، يسد الطريق أمام عينيه. يرفع المواطن رأسه أكثر فلا يرى من الميدان سوى لافتة ضخمة للغاية معظمها باللون الأخضر، الذي يشير دائمًا إلى طريق السلامة المريح، وإلى الاستقرار والمضي قدمًا، تحمل كلمة "نعم" كبيرة وتحتها بخط أصغر "للدستور" وعلامة "صح" مجاورة. في نهاية الشارع، يقبع الجدار الأسمنتي المكون من كتل خرسانية ضخمة كئيبة متصلة ببعضها البعض من خلال قضبان حديدية، ولا يحمل سوى جملة واحدة صغيرة، مكتوبة بحروف سوداء حادة "افتحوا الشارع". تبدو كلمة "نعم" الصغيرة تلك ضخمة للغاية فوق لافتة أنفق عليها مئات الآلاف من الجنيهات، في حملة أغرقت شوارع مصر العامرة بالفقراء. يستطيع المواطن بلا أي جهد وهو قادم من بداية الشارع أن يراها قوية واضحة مستفزة ومخترِقة، كأن هذا في الحقيقة هو كل ما تبقى من ميدان التحرير، وتحتها على النقيض، تبدو "افتحوا الشارع" صغيرة، مُحاصَرة، لا يراها سوى من يقف أمام الجدار مباشرة، وبطبيعة الحال، سيمنعك الضابط الواقف هناك بلا داع من تصويرها. ••• مع كثرة الجدران والحوائط والشوارع ذات النهايات المسدودة وحواجز التفتيش التي لا تفضي إلى شيء، وغالبًا ما تتحول وظيفتها في النهاية إلى منعك من المرور، لا يبقى أي خيار أمامنا سوى أن نخبط رؤوسنا فيها. هل كنت تفكر في التصويت ب"لا" على الدستور؟ هل مثلا كنت تظن إن الاستفتاءات بعد ثورة يناير ستفتح المجال أمام الاختيار الحر للمواطنين؟ أو أن العملية الانتخابية ستتضمن ربما حرية الاختيار بدلا من الانسحاق بين رحى "السيء والأسوأ منه"؟ اتضح أننا عندما كنا نغني "الشارع لنا" كانت أجهزة الأمن في مصر ترد دائمًا "انسوا"، وعندما كنا نقول "حرية"، كان بعض ممثلي نخبتنا السياسة يردون "في إطار الاختيارات الضيقة السوداء المتاحة"، واتضح أننا عندما كنا نقول "كرامة"، كان مومياوات النظام وحراس بيروقراطيته البالية يردون "على النحو الذي ينظمه القانون". السؤال هنا والآن: كيف تطلب من مواطن الإدلاء بصوته في استفتاء على الدستور، بينما كل وسائل الإعلام تحرضه على التصويت لاختيار بعينه وأجهزة الأمن التي شعرت فجأة مؤخرًا بالتهديد من كل شيء، حتى لو كان ذلك الشيء مجرد عروسة لعبة، تصادر كل من يضبط وبحوزته ما يشير من قريب أو بعيد إلى الخيار الذي لا تريده "الدولة"؟ دعنا إذن من الحديث عن مسودة دستور جديدة، ففي كل الأحوال سيأتي صباح على الدولة المصرية العزيزة تلعلع فيه ب"زغروطة"، وهي تقول إن ال"نعم" اكتسحت، وقتها ستصبح "نعم" لا لثورتي يناير ويونيو فقط، وإنما لكل ممارسات الأجهزة الأمنية الآن، وللفريق السيسي طبعا، ولقوانين ال"سيد الطيب" عدلي منصور أثناء منحه حق التشريع، ستصبح نعم لكل شيء، وأي شيء، لذا من الممكن اختصار الكثير من الكلام والدخول مباشرة في أحد الكوابيس اليومية، التي بالتأكيد لن يتضمنها الدستور. أريد أن أفهم فقط لماذا احتلت وزارة الداخلية شوارع وسط البلد وباب اللوق وعابدين هكذا؟ أفهم أن هناك ضرورات أمنية، رأينا عدم جدواها في تفجيرات الدقهلية التي أطاحت بمديرية الأمن، لكن إذا كانت الداخلية بميزانيتها التي تضاعفت مرتين أو ثلاث مرات بعد الثورة، بالعاملين فيها وضباطها وقياداتها، بالقوانين التي تصدر خصيصًا لرفع الحرج عنها في حالات قتل المتظاهرين والقبض عليهم في أي مكان وأي وقت لأي سبب، إذا كانت نفس هذه الوزارة تخشى على نفسها إلى الدرجة التي تجعلها تغلق في وجوهنا كل الشوارع الحيوية تلك بصفاقة، فلماذا لا تنتقل إلى أي مكان في المدن الجديدة المنتشرة في الصحراء المحيطة بالقاهرة؟ لماذا يجب علي الدوران حول نفسي، بينما يقبع ميدان التحرير أمامي مباشرة، ولا يفصل بيني وبينه سوى جدار "افتحوا الشارع" إياه؟ تحاول الداخلية منذ سنوات حماية نفسها، بالجدران الخرسانية وحواجز التفتيش وغلق كل الشوارع المؤدية وغير المؤدية إليها، حتى تحولت المنطقة إلى شوارع لا تفضي إلى شيء بل إلى نهايات مسدودة بجدران. أصبح الأمر كما لو أن الداخلية قد عُزلت عما حولها، أو ربما أصبحت مبانيها هي المحبوسة، وليس المواطنون الموجودون في المنطقة. عندما أسير هناك، وأنا أتجاهل همز ولمز العساكر والضباط وتحرشاتهم السرية منها والعلنية، أفكر أن الداخلية لا ينقصها الآن إلا أن تغلق الشارع الوحيد المفتوح المؤدي إلى باب اللوق، وترسم حدودًا جغرافية حولها، مع الأسلاك الشائكة الموجودة أصلا، وتستعير بعضًا من حرس الحدود، ثم ترفع لافتة "ادخلوها بسلام آمنين". أحب أن أتذكر أنه في لحظة ما من تاريخ القاهرة في السنوات الثلاث الأخيرة، كان هناك ما يقرب من 18 حاجزًا وجدارًا، يلتف حولهم الناس للوصول إلى وجهاتهم، يتسلقونهم أحيانًا، يتأففون ويتذمرون لكنهم لا يفعلون شيئًا. وعندما طلب رئيس البرلمان السابق، عضو الإخوان، سعد الكتاتني، بشكل ودي من وزارة الداخلية إزالة الجدار الذي يعيق أعضاء مجلس الشعب والشورى من الوصول إليهما، أزيل جدارًا واحدًا، هكذا، لأن مصالح المواطنين لا تعني شيئًا، لأن التفافنا حول الشوارع التي تقبع أمامنا مباشرة للوصول إليها لا يعني شيئًا، هكذا لأن المنطقة تحولت بعقد غير مكتوب إلى ملكية وزارة الداخلية، وتعاملت معها الوزارة كأنها أراضٍ محتلة! إن انتصار لافتة ال"نعم" بملايين الجنيهات التي أنفقت عليها، وبمباركة أجهزة الدولة لها، على الشارع الذي يرغب المواطن فقط في أن يكون مفتوحًا أمامه، ويا لها من رغبة باهظة الثمن الآن، هو المشهد الأوسع المعبر عن مصر. ربما ليس أمامنا سوى أن نكتب على جدار أصم "افتحوا الشارع"، في انتظار أن يكفل الدستور الجديد حقوقنا البديهية في الشوارع، وحريتنا الأساسية في ألا تصبح حياتنا اليومية كابوسًا مقيمًا "لدواعٍ أمنية".