كتب أندرو ناتسيوس، مبعوث الولاياتالمتحدة السابق فى السودان، وأستاذ فى جامعة إيه آند إم فى تكساس، مقالا نشر بجريدة نيويورك تايمز، تناول فيه الأزمة التى يعانى منها جنوب السودان، يرى الكاتب أن جنوب السودان يواجه أزمته الأكثر حدة حتى الآن. فالبلد الصغير الذى ولد فى استفتاء عام 2011، بعد حرب طويلة مع السودان أسفرت عن مقتل 2.5 مليون شخص، يعيش الآن فى خضم أزمة سياسية تسند إلى صراع قبلى. ويقول الكاتب إنه بعد اتفاق السلام الشامل عام 2005 الذى أنهى الحرب بين الشمال والجنوب، بنى سلفا كير، الرئيس الحالى لجنوب السودان، بلدا من ائتلاف هش بين القبائل والمناطق. وكنت أشغل منصب المبعوث الأمريكى للسودان من 2006 إلى 2007، وكان سلفا كير الذى عرفته آنذاك، ملتزما بالديمقراطية وحقوق الإنسان وسيادة القانون. ولكن الآن يقول منتقدوه انه يركز السلطة فى يديه، باستخدام القمع وسيلة للحكم بدلا من الإقناع. وينتسب كير إلى قبيلة الدينكا أكبر قبائل جنوب السودان، بينما جاء نائبه السابق، ريك مشار، من النوير، ثانى أكبر قبيلة. وهناك تاريخ من التنافس الاقتصادى والسياسى، والمواجهة الدامية، بين هاتين الجماعتين. وفى عام 1991، بعد صراع على السلطة بين المتمردين الجنوبيين، انفصل مشار عن جون قرنق وكير، الزعيم ونائبه، على التوالى، من الجيش الشعبى لتحرير السودان والحركة الشعبية لتحرير السودان، وعقد تحالفا بين ميليشيا النوير وشمال السودان. ويرى ناتسيوس أن ذلك كان زواج المصلحة: السيد مشار بدعم استقلال الجنوب، فى حين أيد السيد قرنق والسيد كير الحكم الذاتى للجنوب فى إطار السودان الموحد. وكانت الخرطوم تعارض الاستقلال، لكنها سلحت مشار لإبقاء جنوب السودان فى حالة من الفوضى. وتقاتلت القوات الجنوبية فيما بينها لعقد من الزمان، وارتكبت فظائع رهيبة: فى مجزرة بور 1991 قتل قوات النوير التابعة لمشار الآلاف من المدنيين الدينكا. واتحدت قوات الجنوب أخيرا فى 2001، تحت ضغط من حكومة الولاياتالمتحدة. وبعد التوقيع على اتفاق سلام مع الخرطوم فى يناير 2005، أصبح السيد قرنق رئيس الحكومة المؤقتة فى جنوب السودان، المتمتع بحكم شبه ذاتى. وعندما توفى فى حادث تحطم مروحية فى يوليو سرعان ما خلفه كير وأصبح ماشار نائبه. وعملا معا لتحقيق التوازن بين المصالح الطائفية داخل الجنوب، خاصة فى توزيع الوظائف والعقود الحكومية. كما عملا معا لنزع فتيل التوترات عندما هدد العنف الطائفى الاستقرار. وفى 9 يوليو 2011، أصبح الجنوب مستقلا بشكل كامل. ولكن توقعات الجمهور خابت فى حدوث مردود سريع للسلام. وفى 2012، اتهم كير بعض وزرائه وقادة الجيش بسرقة أربعة مليارات دولار. واستخدمت الحكومة القمع لإسكات منتقديها. وارتكب الجيش الشعبى لتحرير السودان، انتهاكات لحقوق الإنسان فى ولاية جونقلى شرق جنوب السودان، ضد المورلى، وهى قبيلة سلحتها الخرطوم لإحداث حالة من الفوضى فى المنطقة. ••• ويشير ناتسيوس الى انتقاد مشار لقيادة كير الاستبدادية وإعلانه أنه سيتحدى كير لرئاسة الحركة الشعبية، والترشح للرئاسة فى عام 2015. وأقال كير مشار من منصب نائب الرئيس فى يوليو، وهو ما عجل بانهيار التوازن الحكومى القبلى الهش فى السلطة. ويرى منتقدو كير فى الجنوب أنه يطرد الإصلاحيين فى حزبه، ويحيط نفسه بدلا من ذلك بالموالين من منطقة أهله والمساعدين السابقين للرئيس عمر البشير رئيس السودان. وقدم كير بعض التنازلات للخرطوم بشأن تقاسم عائدات النفط ووضع منطقة ابيى الحدودية المتنازع عليها. وربما كان يرى أن هذا لتحقيق الاستقرار فى علاقة جنوب السودان مع السودان، ولكن آخرين يقولون انه قدم تنازلات كثيرة. وعلى الرغم من أن الخلاف بين كير ومشار ليس له أساس عرقى، تتحور معركتهم السياسية الآن إلى حرب قبلية. ففى 15 ديسمبر اندلع التوتر بين الدينكا والنوير داخل الحرس الرئاسى، بعد أن أمر كير بنزع سلاح الجنود النوير لأنه تشكك فى ولائهم. وقد فعلوا ذلك، ولكن جنود الدينكا التقطوا الأسلحة بعد ذلك وحدث بعض اطلاق النار. وأمر السيد كير باعتقال 11 من كبار أعضاء الحركة الشعبية، بدعوى أن هذا محاولة انقلاب. وارتكب جنود الدينكا عمليات قتل على نطاق واسع استهدفت المدنيين النوير فى جوبا. وتم قصف منزل مشار فى العاصمة بواسطة قوات المدفعية الحكومية؛ وقتل الموظفين التابعين له. وهرب مشار وجنوده إلى أراضى النوير فى ولايتى أعالى النيل والوحدة. ونقلت الأممالمتحدة ووسائل الاعلام ان ميليشيات النوير الموالية لمشار ارتكبت فظائع انتقامية واسعة النطاق ضد المدنيين الدينكا. وسيطرت قوات مشار أيضا على حقول البترول فى مناطق النوير، وهى أداة نفوذ هائلة؛ حيث يشكل البترول أكثر من 90 فى المائة من إيرادات جوبا. ويقال إن الرئيس السودانى عمر البشير اقترح على كير ارسال قوات من الشمال لحماية حقول البترول الجنوبية. ورفض كير، بحكمة، ولكن الآن أعلن ماشار انه يعتزم التفاوض على صفقة بترولية خاصة مع الخرطوم. وهذا سوف يسمح الخرطوم للتلاعب بالجانبين الجنوبيين ضد بعضهما البعض. ••• ويشير الكاتب الى أن قرار مجلس الأمن الدولى الذى صدر مؤخرا لإرسال مزيد من القوات إلى جنوب السودان لضمان حماية المدنيين، غير كاف بل يجب القيام بما هو أكثر من ذلك بكثير. ويرى ناتسيوس أنه يجب أن يفرج كير عن جميع السجناء السياسيين من الحركة الشعبية كما يجب تعيين حكومة مؤقتة حتى يمكن عقد الانتخابات. وعلى مشار، من جانبه، وقف جميع العمليات العسكرية الهجومية وسحب قواته من حقول البترول. فإذا رفض، ينبغى أن تفرض الأممالمتحدة عقوبات عليه. وعلى الرغم من أن كلا من كير ومشار يقول إنه يدعم المصالحة، إلا أن كلاهما يحاولان تحقيق مكاسب عسكرية فى البداية من أجل دعم مواقفهما التفاوضية. وبالتالى يجب تنظيم المحادثات فى أقرب وقت ممكن. وقد عرض الرئيس يورى موسيفينى رئيس أوغندا العمل كوسيط، ولكن وسائل الاعلام الاوغندية تقول إنه أرسل قواته الخاصة لحماية جوبا من قوات مشار. ومن ثم، فهو ليس محايدا، وينبغى إيجاد وسيط آخر ربما يكون الحكومة الاثيوبية. وفى ختام المقال يستشهد ناتسيوس بمقولة البشير منذ عشر سنوات، أنه لا ينبغى منح الاستقلال للجنوب لأن الجنوبيين لا يمكن أن يحكموا أنفسهم، وسوف ينزلقون إلى صراع عرقى. وعليهم ألا يبرهنوا على أنه كان محقا.