يتنامى اليوم فى جميع أنحاء المنطقة العربية توافق فى الآراء أن الشعوب العربية تواجه تحولا جديدا فى علاقتها مع العالم الطبيعى، فإذا ما شكلت السنوات السبعين الماضية عصر النفط فى المنطقة العربية، فإن السنوات المقبلة بلا شك سوف يشكلها إلى حد أكبر بكثير مدى نجاحنا فى الاستفادة من أحد أهم الموارد الطبيعية الأخرى: المياه. أطلق المكتب الإقليمى للدول العربية التابع لبرنامج الأممالمتحدة الإنمائى (UNDP) أمس تقريرا جديدا حول مستقبل المياه فى المنطقة العربية بعنوان «حوكمة المياه فى المنطقة العربية.. بين تأمين العجز وضمان المستقبل» وتتلخص أطروحته الرئيسية فى أن المستقبل ستحدده قدرة الدول العربية على إدخال تحسينات جذرية فى طريقة إدارتها للموارد المائية. خلال العقود الأخيرة، ساعدت ثروة النفط والغاز على تحقيق قدر كبير من التحديث شمل تحسن غير مسبوق فى مؤشرات التنمية البشرية، ولكن المحافظة على استدامة ما أحرزناه من تقدم يتطلب منا معالجة قضية المياه بذات القدر من الاهتمام والتوقير الذى أوليناه لموارد الطاقة لدينا بل وربما بقدر أكبر. وكما يؤكد تقريرنا، فقد يكون لدى المنطقة العربية أكبر مخزون من النفط فى العالم، ولكن لديها فى الوقت ذاته أدنى مستويات توافر المياه. ويؤكد التقرير أن التحديات المائية التى تواجه المنطقة العربية هى جزء لا يتجزأ من مجموعة أوسع بكثير من القضايا ذات الأهمية المحورية فى حاضرنا اليوم، من انخفاض الإنتاجية الزراعية، مرورا ببطالة الشباب وحتى بعض ما تشهده المنطقة من اضطرابات مدنية، إذ يرتبط معظم ما تواجهه المنطقة العربية اليوم من ديناميات صعبة بقضية المياه بشكل أو بآخر. وإن كانت قضية المياه تشكل تحديا حقيقيا فى جميع المجتمعات حول العالم، إلا أنها هنا فى المنطقة العربية تكتسب أهمية حاسمة يحس الجميع بعمق أثرها. ولكن العجز المائى لا يروى سوى جزء من القصة. فكما يوضح تقريرنا، والذى أعدته مجموعة بارزة من العلماء والعاملين بمجال المياه العرب، أن المأساة الأكبر تكمن فى التعامل مع هذا المورد الثمين بمناهج تفتقر إلى رؤية مستقبلية واعية وتخطيط سليم: فنجد أن موارد المياه الجوفية فى العديد من الدول العربية تُستَنزَف بكميات تتجاوز معدلات تجددها طبيعيا، كما تُسجَل أعلى معدلات استهلاك السكان للمياه فى الدول العربية الأكثر فقرا من حيث توافر الموارد المائية. والنتيجة هى أن مستويات المياه لدينا، والتى هى بالأساس منخفضة، نظرا لجفاف مناخنا، تتسارع مستويات انخفاضها بسبب ما نتخذه من قرارات بشأن استخدامها، كأفراد ومجتمعات. اليوم صار التصدى لتحدى ندرة المياه بمقاربات شاملة ومتكاملة أمرا عاجلا ومُلِّحا. والعالم العربى غنى بالعلماء والمسئولين ورجال الأعمال وممثلى المجتمع المدنى الذين يعملون جاهدين على ابتكار وتنفيذ العديد من الحلول اللازمة للتخفيف من أزمة المياه، ووضع أُسس استراتيجية لاستخدام المياه على نحو أكثر إنصافا وفاعلية واستدامة. ولكن ما نفتقده فى المنطقة العربية هو المزيج الناجع من الإرادة السياسية التى تضع قضية المياه على رأس أولوياتها، والقدرة المؤسسية التى تضمن استخداما أكثر فاعلية لموارد المياه. ويؤكد التقرير أن مفتاح باب المستقبل للمياه فى المنطقة العربية إنما يكمن فى إحداث تحول جذرى فى سبل إدارة موارد المياه، أو ما يمكن أن نسميه «حوكمة المياه.» وهذا يعنى أن معالجة أزمة المياه الحالية تتطلب تعزيز القدرات التقنية والمؤسسات الوطنية وتطوير آليات لزيادة الشفافية والمساءلة فى الخدمات العامة للمياه، كما أنه يتطلب تمويلا إضافيا، وقد أظهر تقرير حديث للبنك الإسلامى للتنمية أن الدول العربية تحتاج إلى استثمار 200 مليار دولار فى البنية التحتية فى السنوات القادمة من أجل تلبية الطلب المتزايد على المياه. ويتطلب تحقيق التقدم فى مواجهة أزمة المياه تبنى مقاربات متكاملة تتناول العلاقة بين المياه من جهة، والصحة، والتعليم، والتخفيف من حدة الفقر، وحماية البيئة، وإيجاد فرص العمل، والأمن الغذائى، وتأمين الطاقة، من جهة أخرى. كما يتطلب أيضا مزيدا من الاهتمام والالتزام السياسى حتى فى وسط المناخ السياسى المضطرب الذى يسود المنطقة فى الوقت الراهن ويفرض عليها العديد من التحديات. وذلك يتطلب زيادة التعاون ما بين دول المنطقة من جهة، ومع الدول المجاورة من جهة أخرى بحيث يتم تقاسم المياه وفقا لاحتياجات كل بلد بما يحقق صالح الجميع. لهذا السبب يعمل برنامج الأممالمتحدة الإنمائى فى ثمانى عشرة دولة عربية لإحراز تقدم نحو تحسين إدارة المياه من خلال عمله فى مجالات تقاسم المعرفة، وتطوير القدرات وربط أصحاب المصلحة بالموارد اللازمة، من أجل تأمين مستقبل مائى أفضل، كجزء من نشاطه الأوسع نطاقا والساعى نحو دعم التنمية البشرية المستدامة فى جميع أنحاء المنطقة العربية. فى العديد من البلدان ساهمت برامجنا بالفعل فى تحقيق نتائج ملموسة، ولكن لاتزال الحاجة ماسّة للمزيد من العمل الدءوب، وفى هذا الصدد، يظل المكتب الإقليمى للدول العربية ببرنامج الأممالمتحدة الإنمائى على استعداد لمضاعفة الجهود. إن العمل من أجل تحسين إدارة الموارد المائيه لا يمكن فصله عن التحديات التى تواجهها المنطقة العربية حاليا على نطاق الواسع فى مجال التحول نحو الحكم الديمقراطى. فلاتزال أصوات الشعوب تتردد أصداؤها فى جميع أنحاء المنطقة العربية مطالبة بالعدالة والإنصاف، وبزيادة المساءلة فيما يتعلق باستخدام الموارد العامة، وبمستقبل أكثر إشراقا لأطفالهم ومجتمعاتهم، وبلدانهم والمنطقة بأسرها. وبينما تتعدد مكونات وديناميات هذا التحول وترتبط ببعضها البعض بشكل وثيق، يبقى تحسين إدارة الموارد المائية مكوِّنا ضروريا إذا ما أرادت المنطقة العربية تحقيق تطلعاتها الحالية كانت أم المستقبلية. لقد حان الوقت لأن يضع كل المعنيين فى المنطقة العربية إدارة المياه على رأس أولوياتهم، فالتركيز والاعتماد على النفط وحده لم يعد كافيا. المدير المساعد لبرنامج الأممالمتحدة الإنمائى ..ومدير المكتب الإقليمى للدول العربية به جرى حذف أجزاء منشورة فى التقرير الذى تعرضه «الشروق» فى نفس الصفحة تفاديا للتكرار.. «المحرر»