• الشقيقة الصغرى تنتظر عودتها وتسأل عن تأخرها .. وأصدقاؤها: كانت ملاكا يمشى على الأرض «كفوا دموع المراثى إنها ترف.. عن سائر الموت هذا الموت مختلف»، لم يكن الشاعر قائل البيت السابق، يدرك أن ذاكرة المصريين ستحفظ كلماته عن ظهر قلب، لترددها بين حين وآخر، بعدما باتت أخبار القتل وتشييع الجنائز تتصدر المشهد العام فى بر المحروسة. «شنبارى» بمركز أوسيم بالجيزة.. القرية التى يعود إليها نسب الشهداء الأربعة الذين قتلوا فى الحادث الإرهابى الذى استهدفهم أثناء حفل زفاف لعائلة قبطية أمام كنيسة العذراء والملاك ميخائيل بالوراق، مساء الأحد الماضى. حزن ليس كمثله حزن، شوارع القرية تكاد تحكى لزائريها قصة عائلة صغيرة خرجت لتحتفل بزفاف أحد أبنائها، فعادت تحمل جثامين أربعة من ذويها، فيما يرقد بعضهم حتى اللحظة فى مستشفى المعادى العسكرى إثر اصابتهم فى الحادث. الجد فهمى عازر عبود عوض الله، 75 عاما، والد الشهيد سمير فهمى، وجد الضحيتين مريم أشرف (8 أعوام)، ومريم نبيل (12 عاما)، كما أنه زوج شقيقة الشهيدة كاميليا حلمى عطيّة. «الشروق» التقت الجد أثناء عزاء نظمته كنيسة السيدة العذراء بأوسيم، أمس الأول، بحضور عدد من القساوسة والكهنة، على رأسهم نيافة الأنبا دوماديوس جيروم، أسقف إبرشية 6 أكتوبر وأوسيم. تحدث الجد قائلا: «خرجنا فى أتوبيس من قرية شنبارى وذهبنا إلى كنيسة العذراء بالوراق، وفور وصولنا فى الثامنة والربع مساء الأحد، توقفنا أمام الكنيسة، وذهبت لاستقبال بعض أقاربى الذين حضروا من حلوان لتهنئتى بأحد المقاهى المجاورة للكنيسة، فسمعت إطلاق النار، وحدث ما حدث فى غياب الشرطة، وغياب سيارات الإسعاف، حتى أننا نقلنا الضحايا والمصابين فى تكاتك وسيارات أجرة على نفقتنا الخاصة إلى مستشفى الساحل». للجد فهمى ولدان من ضمن الضحايا، نبيل الذى ما يزال يخضع للعلاج، وسمير ابن الخمسين عاما الذى وافته المنية، أضاف: «كان ابنى سمير يعمل فى ورشة للحدادة، لكنه عانى قبل 10 أعوام من آلام فى الظهر فترك الورشة، ولجأ لبيع البط الأبيض على تروسيكل فى شنبارى والكوم الأحمر والزاوية». لسمير 3 أبناء، هم رامى 23 عاما، وماهر 18 عاما، وشادى 12 عاما، وجميعهم يعملون بالنجارة، الأول والثانى متزوجان، أحدهما يقيم ببيت والده والآخر يعيش فى «كفر حكيم»، يستطرد: «لا سرقنا ولا نهبنا.. ربنا ياخد حقنا»، وعن منفذى الحادث، قال: «ربنا ينتقم منكم والحكومة تولع فيكم زى ما قتلتونا». عن علاقته بجيرانه المسلمين قال إن اثنين من جيرانه استقبلاه فور وصوله عقب وقوع الحادث وأرسلوا له الطعام ولأسرته، «فهم يعيشون كإخوة دائما». نصيب زوجة الجد فهمى، أم سمير 72 عاما، من الحزن أكبر من غيرها كثيرا، فقد فقدت شقيقتها كاميليا، ونجلها سمير، وابنة نجلها مريم نبيل، ولايزال لها أقارب على أسرّة المستشفيات، قالت وهى تذرف الدموع: «عوضى على الله، ربنا ينتقم من الإرهابيين زى ما حرمونى من ابنى، أشوف فيهم زى ما جرى لولادى كلهم». بجوار أم سمير، جلست سيدة خمسينية فى العزاء بالكنيسة، وقالت وهى باكية: «فين الشرطة؟! المفروض يأمنوا الكنائس، احنا بنشكى لربنا ومش بنشكى لأى حد، واللى بيقتل الناس بيخدم الشيطان مش بيخدم ربنا». فور نهاية العزاء ظهر الثلاثاء، رافق الشاب أبانوب عاطف، طاقم جريدة «الشروق» إلى قرية شنبارى التى تبعد بضعة كيلومترات قليلة عن مركز أوسيم، وفى الطريق تحدث أبانوب عن قصة «الإكليل الحزين» الذى تم إنجازه للعروسين فى كنيسة أخرى غير كنيسة العذراء بالوراق، هى كنيسة تحمل الاسم نفسه فى «الكوم الأحمر». قال: «فى المعتاد يصاحب الإكليل، احتفالات وزغاريد والورد الذى يتم إلقاؤه وغير ذلك من طقوس الفرح، لكن شيئا من ذلك لم يحدث بسبب الحادث الإرهابى، بل إن تراتيل الفرح نفسها كانت حزينة، كان الناس يرددونها بوجوه تعلوها ملامح الحزن والألم». «رغم إتمام مراسم الزواج فإن العروسين لم يدخلا»، أضاف أبانوب، متحدثا عن واقع العروسين بعد الزفاف، مشيرا إلى أن زيارات الأهل المعتادة عقب الزواج لم تحدث بسبب الحالة التى تعيشها العائلة. أحد أقارب مريم تجلس في منزلها .. في انتظار ما لا يجئ - تصوير: هبة خليفة مارينا عماد، ابنة عمة مريم نبيل، فى الصف الثالث الإعدادى بمدرسة الشهيد أيمن سمير، قالت إن مريم التى تصغرها بعام واحد كانت فى المدرسة نفسها فى الصف الثانى الإعدادى، وأنها كانت ترافقها إلى المدرسة كل صباح. تابعت مارينا ونحن نقترب من بيت مريم عبر شوارع ترابية ضيقة: «كانت مريم تشارك فى الكورال والأعمال الفنية والترانيم بالكنيسة، وكانت لها رسومات وأعمال فنية عن السيد المسيح والسيدة العذراء ويوسف النجار». وصلنا لمنزل الشهيدة مريم، بيت صغير من طابقين، بعد الباب مباشرة حجرة صغيرة عليها مفرش بلاستيكى بسيط، صعدنا عبر درجات سلم مبنية بالأسمنت إلى شقة أسرة مريم، دخلنا حجرتها واطلعنا على بعض صورها وهى صغيرة، وحقيبتها المدرسية بما فيها من كراريس وكتب. جلست الصغيرة ناردين ابنة الصف الخامس الابتدائى، شقيقة مريم الصغرى أمام جهاز كمبيوتر بحثا عن رسوم أو أشياء تخص الشهيدة، لم تجد ناردين شيئا، وهمست جدة مريم لوالدتها، وهى سيدة ستينية، تدعى أم أشرف، قائلة: «ناردين لا تعرف أن مريم ماتت، وهى تسألنى طول الوقت عن ميعاد عودتها وترغب دائما فى التحدث إليها عبر الهاتف». قالت أم أشرف عن حفيدتها الفقيدة: «مريم كانت دائمة السؤال عنى، فأنا مقيمة فى بولاق الدكرور، وكانت تزورنى فى كل المناسبات، وكانت تقول لى إنها تحلم بأن تصير راهبة وألا تتزوج، وكانت تسعى للحصول على شهادة كبيرة، وقد كانت فى طريقها للحصول على هذه الشهادة الكبيرة بعدما كانت الأولى فى مدرستها». إلى جوار أم أشرف وقفت سيدتان من جيرانهم المسلمين، كلتاهما ارتدت الحجاب، وقالت إحداهما: «لم نعرف طفلة مؤدبة ومحتشمة فى ملابسها مثل مريم، كان والدها يقول لها افعلى هذا أو لا تفعليه فكانت تطيعه دائما، كل الناس زعلانين عليها وكانت محترمة جدا». كانت تستمع أم أشرف إلى شهادة الجيران عن حفيدتها الشهيدة، وفى عينيها احمرار واضح لما ذرفته من دموع، قادتنا الجدة إلى زميلات مريم اللاتى حضرن من المدرسة لتعزية الأسرة، رنّ هاتفها بنغمة «تسلم الأيادى»، أجابت المتصل وتركتنا نستمع لزميلات الشهيدة. الطفلة مريم قالت زميلات مريم: «كانت تحبنا جميعا ولم تتكبر علينا يوما ما، ولم تعاملنا أبدا كمسلمين ومسيحيين، فقد كنا معا فى كل شىء، ومازلنا نتذكرها بكل خير، والمدرسة كلها حزينة لأجلها». الطفلة آلاء عزت كانت زميلة لمريم فى مدرسة أنس بن مالك الابتدائية بقرية شنبارى، قالت: «كنا معا منذ الصف الأول الابتدائى وحتى الصف السادس وكانت تحبنى جدا، ربنا يرحمها». إلى جوار زميلات مريم حضرت مدرسة اللغة العربية بمدرسة الشهيد أيمن سمير الإعدادية، إيمان أسامة، وقالت عن تلميذتها الفقيدة: «كانت من أطيب التلميذات فى الفصل، وكانت ذكية وشاطرة وكل زميلاتها يحبونها جدا، وكانت مجتهدة فى دراستها وكانت هادئة جدا وكانت تقود زميلاتها فى الأنشطة بالفصل». حين علمت إيمان بوفاة تلميذتها لم تصدق الخبر، وراحت تبحث عبر شبكة الانترنت عن تفاصيل الحادث الإرهابى الذى استهدف كنيسة العذراء بالوراق، وظلت تأمل أن يكون الأمر مجرد تشابه أسماء، حتى فوجئت بصورتها على الانترنت ضمن الوفيات إثر الحادث. أضافت إيمان: «شعرت بالصدمة بعدما تأكدت من خبر وفاتها فى هذا العمل الجبان الذى لا يمت للدين بأية صلة، فمرتكبوه خارجون عن الدين أصلا، لأن قتل النفس من أكبر الكبائر فى الإسلام، أرجو من الله أن يرحم مريم ويجعل مثواها الجنة».