ليست قهوة قشتمر المبنى التاريخي الثقافي الأول الذي تطاله معاول الهدم ولن تكون المكان الأخير في مصر الذي تهدده تحولات المدينة وتحولات البشر. ففي كل بلدان العالم التي تحترم تاريخها وتراثها تكون للأماكن والمباني التي ترتبط بأحداث سياسية أو ثقافية أو فنية، أو تلك التي عاشت فيها الشخصيات التي لعبت دورا في التاريخ قيمة وجدانية وثقافية أبعد وأرفع من قيمتها في سوق العقارات. لا تستطيع معاول الهدم أن تقترب منها. بل تحتفي هذه البلدان بالمباني من هذا النوع وتحافظ عليها، تحولها إلى متاحف أو مزارات ثقافية وسياحية، وتحرص كل بلد إلى أن تشير إلى تلك المواقع من منازل أو مقاهي أو حدائق وتبرزها على خرائطها، فمثل هذه الأماكن تتحول بمن عاشوا فيها أو اعتادوا ارتيادها أو مروا بها إلى جزء من تاريخ الأمة. وعندنا في مصر يختلف الموقف، فبعضا من هذه المباني تحول بالفعل إلى متاحف ومزارات في مراحل مختلفة من تاريخنا، مثل "بيت الأمة" (منزل الزعيم سعد زغلول) و"كرمة ابن هانئ" (بيت أمير الشعراء أحمد شوقي) و"رامتان" (بيت طه حسين). ومثلها بيوت كل من الفنان محمود سعيد بالإسكندرية والفنان محمد ناجي بالهرم وقصر الأمير عمرو إبراهيم بالجزيرة والذي يتميز بطرازه المعماري الفريد، وقد ظل التنظيم الطليعي في الستينيات يستخدمه كأحد مقراته. وحولته وزارة الثقافة منذ التسعينيات إلى متحف للخزف، إلى جانب استخدام بدرومه وحديقته كمركز للفنون وقاعات للعرض التشكيلي، بعض هذه المباني اشترتها الدولة والبعض الآخر صادرته بعد انقلاب يوليو 1952، والبعض من هذه البيوت والقصور وهبها أصحابها للأمة أو أوصوا بتحويلها إلى متاحف للشعب بعد وفاتهم. مثل قصر الأمير محمد علي بالمنيل، وقصر الأمير يوسف كمال بالمطرية، وقصر محمد محمود خليل بك نائب رئيس مجلس الشيوخ في العصر الملكي وأحد رعاة الحركة الفنية في مصر وصاحب المجموعة المتميزة من الأعمال التشكيلية العالمية، والذي أصبح متحفا بعد وفاة الرجل وزوجته الفرنسية يحمل اسمهما معا، إلى أن تم الاستيلاء عليه رغم الوصية في عصر الرئيس الراحل أنور السادات لأنه كان يجاور منزله بالجيزة. واستعادته وزارة الثقافة مرة أخرى بعد أن تولاها الفنان فاروق حسني وأعادت إليه مجموعته التي ظلت غريبة في قصر الأمير عمرو إبراهيم لسنوات، ومثل منزل الفنان حامد سعيد مؤسس جماعة الفن والحياة بالمرج والذي بناه له إن لم تخني الذاكرة المهندس حسن فتحي. وإذا كانت الظروف قد حفظت لنا هذه المباني المهمة التي ارتبطت بزعماء مصر ومفكريها، وامتدت إليها يد الحماية والصيانة والترميم، وأصبحت تحظى برعاية وزارة الثقافة التي حولتها إلى متاحف ومراكز ثقافية مفتوحة أمام الناس‘ فإن مصير عشرات من بيوت قادة الفكر والفن والسياسة في مصر كان مأساويا، وأذكر هنا بعض الحالات من الماضي البعيد والماضي القريب: لقد تم هدم قصر هدى شعراوي رائدة النهضة النسائية في مصر التي لعبت دورا مهما في أحداث ثورة 1919. والتي أسست الاتحاد النسائي المصري سنة 1923 ثم أسست الاتحاد النسائي العربي، ودعت لعقد أول مؤتمر نسائي عربي لمناصرة القضية الفلسطينية في الثلاثينيات من القرن الماضي، وعقدت جلسات المؤتمر في قصرها الذي كان يحتل ناصية شارع قصر النيل وناصية شارع شمبليون وتحولت الأرض من يومها إلى خرابة ثم ساحة لانتظار السيارات. هدمته الدولة نعم الدولة في أوائل الستينيات في ظل سياسة الفندقة التي تبناها أحد الوزراء الكبار في ذلك العصر، والتي أطاح في ظلها بحديقة قصر الأمير محمد علي بالمنيل ليقيم على بقايا أشجارها النادرة فندقا شوه به القصر الأثري، والتي تحول في ظلها أيضا قصر خير الله بالزمالك إلى فندق عمر الخيام الزمالك دون محافظة على حديقته ومكوناتها. ثم تحول في السبعينيات إلى فندق ماريوت الزمالك ببرجيه سابقي التجهيز المحيطين بالقصر الأثري، وفي السبعينيات أيضا وبعد حريق دار الأوبرا تم هدم قهوة متاتيا بميدان العتبة، والتي كان يجلس عليه جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده، وغيرهما من قادة الفكر والسياسة ورجال الثقافة والفن منذ عصر الخديوي إسماعيل، كما هُدم فندق سميراميس بطرازه المعماري المميز وأركانه التي شهدت لقاءات سياسية لقادة الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، وشهدت جلسات كبار مثقفي مصر ومفكريها. ليقام مكانه فندق إنتركونتينتال بطرازه المعماري الحديث، وفي الإسكندرية تم هدم مطعم بترو الذي كان يشهد مجلس توفيق الحكيم، والطابية التي كانت تعلوه والتي تعد من بقايا التحصينات العسكرية زمن العرابيين. وتتردد كل حين دعاوى هدم فندق الكونتينتال بميدان الأوبرا، هذا الفندق الذي شهد اجتماع البرلمان المصري في تحد واضح للملك فؤاد في أول انقلاباته الدستورية، ومنذ أسابيع قليل وأثناء احتفال مصر بالذكرى التسعين لثورة 1919 سمعنا عن مشروع مدينة الأقصر لهدم بيوت شهدت أحداثا تاريخية أثناء الثورة، لو امتلكت مدينة في العالم بيوتا لها مثل هذا التاريخ لعرفت كيف تحتفي بها بما يليق بقيمتها. ومن ناحية أخرى فكثيرا ما يقوم ورثة الساسة والكتاب والفنانيين بهدم بيوتهم أو بيعها بعد وفاتهم، وما حدث مع فيلا أم كلثوم ليس ببعيد، فقد تحولت الفيلا إلى برج وفندق يحمل اسمها دون أن يبقى أي شيئ من المكان الذي عاشت فيه سنوات طويلة من عمرها، ويحمل كل ركن فيه ذكرى من ذكرياتها. إذن فحالة قهوة قشتمر ليست الوحيدة ولا هي الأولى لقد اختفت قهوة إسيفتش وبار اللواء وكافيتريا أسترا بميدان التحرير وقهوة المالية بميدان لاظوغلي وفندق سان استفانو بالإسكندرية، وكلها أماكن لها مكانها ومكانتها في تاريخنا الفكري والثقافي والسياسي، ونسمع أحيانا عن تهديدات تحيق بمقاهي أخرى لها تارخها مثل مقهى ريش بشارع طلعت حرب. وإذا كانت الدولة مطالبة وملزمة بألا ترتكب جرائم كتلك التي وقعت في الماضي القريب أو البعيد، إلا أننا لا نستطيع أن نمنع الأفراد من التصرف في أملاكهم كما يشأون، لقد قامت حملة صحفية وقت بيع فيلا أم كلثوم وهدمها، ولم تؤت ثمرة، لأن ما قام به ورثة أم كلثوم لا يخالف القانون. فماذا نفعل؟ أتصور أن مسؤلية الدولة وواجبها يقتضيان إنشاء صندوق لتمويل شراء مثل هذه المباني من أصحابها، وصيانتها والحفاظ عليها، وتحويلها إلى مزارات سياحية وتاريخية ومراكز للنشاط الثقافي. ويمكن أن يتبع هذا الصندوق جهاز التنسيق الحضاري التابع لوزارة الثقافة، والذي يترأسه الكاتب سمير غريب، والجهاز يبذل جهود واضحة للعيان في منطقة وسط القاهرة (القاهرة الخديوية) للحفاظ على طابعها المعماري والثقافي. ربما يكون مثل هذا الصندوق خطوة أولى على طريق الحفاظ على مبان لها تاريخ.