ينتفض أولادى فزعا عندما يسمعون صوت الألعاب النارية خوفا من أن يكون رصاصا حيا». «ابنتى، 18 سنة، تطاردها الكوابيس فتصحو مفزوعة من وجود دماء على الفراش». «تتذكر بنتى بهلع اليوم اللى نزلنا نهرول فى شارع البطل أحمد عبد العزيز، والرصاص ينهال علينا من كل جانب، ولا نعرف مصدره. لم نكن نعرف أين نختبئ للنجاة». «طفلى عمر يرفض الذهاب للحضانة لأنها تجاور القسم والمستشفى حيث شاهد أحداث عنف تفوق سنوات عمره الأربعة». «فرح، 12 سنة، عندها هاجس إن بلطجية مسلحين سيداهمون البيت فى أى وقت». تلك المقاطع من اعترافات بعض الأسر المصرية التى تعيش فى القاهرة، تعكس ما تحاول احتواءه مبادرة «واحة» التى أطلقتها الأمانة العامة للصحة النفسية، بالتعاون مع المراكز العامة للأمومة والطفولة التابعة لوزارة الصحة. المبادرة سيتم تفعيل آلياتها بصورة أوسع من خلال المدارس، مع بداية العام الدراسى الجديد، عبر تواصل مستمر مع وزارة التربية والتعليم. ذلك وسط توقعات بانتشار نطاق العنف، على حد تعبير الدكتور عادل العجوانى، مدير الإدارة العامة للإعلام والعلاقات العامة بالأمانة العامة للصحة النفسية. تهدف المبادرة إلى وقاية الأطفال من آثار العنف المتصاعد. ويوضح الدكتور عادل العجواني: «نظرا للحرج الذى قد يسببه تردد الأسر على مستشفى العباسية، بسبب وصمة المرض النفسى فى مصر، فقد قررنا توسيع القاعدة الشعبية لعملنا. نتحرك خارج أسوار العباسية ونذهب للأسر فى الأماكن التى يترددون عليها للحصول على خدمات مثل التطعيم أو الكشف الطبى، ونقدم دعما نفسيا أو دوائيا. أعضاء المبادرة موجودون على مدار الأسبوع فى مركز الأمومة والطفولة بالدراسة وفى مستشفى الصحة النفسية بحلوان أو فى العيادة الخارجية بمستشفى العباسية. أيضا سنقوم بنشر الارشادات فى بعض محافظات مصر كالإسكندرية، نظرا لتوتر الأحداث بها، سواء من خلال مستشفى المعمورة أو قصر ثقافة سيدى جابر». الكثير من دول العالم تهتم بالإشارة إلى ما يمكن أن يشاهده الطفل فى كل مرحلة من عمره، فتضع شارة ( +16 أو + 18 ) قبل البرامج، إذا كان فيها قدر من العنف أو الإباحية، بينما أصبحت الفواصل الإعلانية لشاشتنا تحتوى على منظر شخص يلقى بطفل من فوق سطح عقار! يتعجب الدكتور العجوانى من ذلك مؤكدا أن الطفل يختزن مشاهد العنف ليسترجعها فى مواقف أخرى. وتشرح الدكتورة مها عماد، مديرة إدارة الأطفال والمراهقين بالأمانة العامة للصحة النفسية: «مبادرة (واحة) تسعى لتوعية الأسر حول كيفية التمييز بين أعراض القلق والتوتر الناتجة عن العنف كرد فعل طبيعى، وتلك التى تصل إلى حالات مرضية. الموضوع يتوقف على درجة العنف التى تعرض لها الطفل ومرونته النفسية والدعم الأسرى. كما نهتم بالأطفال الذين فقدوا ذويهم أو شخص قريب لهم فى الأحداث». الدكتورة مها حصلت هى وفريق عملها على دورات تدريبية تنظمها مؤسسة «الطفل والحرب» العالمية (Children and War Foundation) لتطبيق برامج «اضطرابات ما بعد الكرب أو الأزمة». تشير الطبيبة إلى أن الطفل فى الأحياء الفقيرة يبدو أكثر تضررا، لأن الدوائر التى يتحرك فيها قد لا تقدم له الدعم النفسى المطلوب مثل نظيره فى الطبقتين المتوسطة والعليا، فهو لا يجد متنفسا فى النادى أو السينما لتفريغ شحنة العنف على سبيل المثال. وبالتالى قد يتبنى الأطفال مواقف عنيفة لحل مشاكلهم الصغيرة، كأن يسدد لكمة فى وجه رفيقه أثناء مباراة لكرة القدم، إلى ما غير ذلك من وسائل لإبداء اعتراضه. و هو ما لاحظته والدة الصغير كريم ( 8 سنوات) الذى بدأ يفضل اللعب بالأسلحة البلاستيكية فضلا عن الألعاب الالكترونية القتالية والأسلحة البيضاء، ثم كانت الطامة الكبرى عندما ضبطته متلبسا بمحاولة ذبح أخيه بسكين لعبة. شعرت الأسرة بالقلق وضرورة التوجه لطبيب أو أخصائى نفسى، لا سيما عندما برر كريم ذبح أخيه، قائلا: «هو من الفلول الإخوان!». حالة الاستقطاب التى يعيشها المجتمع قد تنتقل عدواها بسهولة إلى عالم الصغار، فهم بطبيعتهم شديدو التعصب وينظرون للحياة كلعبة الشطرنج، حيث لا يوجد سوى لونين: الأبيض والأسود، الخير والشر. الأطفال لا يفهمون الاختلاف بدرجاته، لذا لا يجب إقحامهم فى متاهات السياسة، كما تقول الدكتورة إيمان جابر إخصائية الطب النفسى للأطفال والمراهقين. وهى توضح كيف يقومون بتقسيم أنفسهم إلى فلول أو إخوان أو ليبراليين، أثناء اللعب، مما ينذر بعواقب وخيمة، لأنهم سيصنفون أنفسهم إلى فريق الأخيار والفريق الأشرار. وتضيف الدكتورة إيمان جابر: «هناك خطر أكبر على المراهقين لأنهم الفئة الأكثر اندفاعا فى تبنى مواقف عنيفة، والسيطرة على قنوات معارفهم ( يوتيوب فيسبوك تويتر.. إلخ) أصبحت فى منتهى الصعوبة». تهدف أيضا مبادرة «واحة» إلى تدريب الإخصائيين فى مراكز الخدمة المختلفة عن طريق استخدام مجموعة من الأسئلة لقياس أعراض التوتر العادية وحالات كرب ما بعد الأزمة. تعد هذه هى المبادرة الثانية من نوعها التى تطلقها الأمانة العامة للصحة النفسية، بعد المبادرة الأولى التى أطلقتها عام 2011 بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية، لصالح أطفال العراقيين والسوريين فى مصر، الذين عانى بعضهم من اكتئاب مصاحب بحالات انتحار.