لم تجد أغلب الدول التي سقطت ضحية تنازع التيارات السياسية المختلفة، بل وسقوط ضحايا بعد الدخول في طريق «الحرب الأهلية» المظلم، طريقًا سوى الاستنجاد بالمصالحة الوطنية في نهاية المطاف، لإيقاف إراقة الدماء وإعادة روح التصالح بين المتنازعين، والتعايش من جديد. وفي تاريخ المصالحات الوطنية بالدول المختلفة، كان لمنظمات المجتمع المدني الدور الأعظم في إنجاحها، وعلى سبيل المثال قامت هذه المنظمات في جنوب أفريقيا بمراقبة نزاهة اختيار أعضاء لجنة «الحقيقة والمصالحة لتعزيز الوحدة»، والتي أصدر البرلمان قانون إنشائها عام 1995، وكانت تلك اللجنة تمتلك صلاحيات واسعة مثل حق الاستدعاء للتحقيق، ومنح التعويضات للضحايا، وصلاحية شبه قضائية لمنع العفو لبعض مرتكبي الجرائم، وبعد إصدار التقرير النهائي للجنة اعتمده البرلمان، لكن الحكومة لم تنفذ ما جاء به من توصيات إلا بعد ضغط شديد من المنظمات. وفي «جواتيمالا» بأمريكا الوسطى، والتي شهدت حربًا أهلية استمرت 30 عامًا بين الاتحاد الوطني الثوري، وبين الحكومة المناهضة للشيوعية، اتفق فيها الطرفان على إطلاق « لجنة الإيضاح التاريخي» عام 1994، بعد أن اتسع نطاق الانتهاكات ووصلت أعداد الضحايا إلى 200 ألف شخص. وكان لمنظمات المجتمع المدني دورًا بالغ الأهمية، حين زودت اللجنة بكل المعلومات التي وثقتها خلال الأحداث، بعد أن رفضت القوات المسلحة في جواتيمالا الكشف عن أي معلومات تخص الأحداث، بدعوى عدم امتلاكها، بالإضافة إلى ممارسة الضغوط على الحكومة في النهاية لتقوم بتنفيذ التوصيات التي رجت بها اللجنة، كما حدث في جنوب أفريقيا. أما غانا، فقد بدأت تظهر فرصة لتحقيق العدالة الانتقالية عام 2001، وتم إطلاق لجنة للتحقيق في الانتهاكات التي قام بها أشخاص يدعون أنهم نيابة عن الدولة، وتعاون مع اللجنة من يناير 2004 «ائتلاف منظمات المجتمع المدني»، والمكون من 25 هيئة دستورية وقتها، فقام بعمل استقصاء شعبي، تمت بعده صياغة إعلان توافقي من 12 مادة تتعامل بهم الحكومة مع المصالحة. وفي إطار ما سبق، قال جمال عيد، مدير الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان، إنه لا ينبغي الحديث عن وجود لجنة لتحقيق المصالحة الوطنية بين التيارات السياسية المختلفة، قبل وجود «لجنة الحقيقة» والتي لا بد أن تتاح لها صلاحيات معينة للكشف عن الأوراق والمستندات التي تحتاجها لترصد الانتهاكات، وتستطيع تحديد المتورطين فيها لمحاسبتهم في النهاية. وأضاف «عيد»، أن الاهتمام بالمحاسبة قبل المصالحة ضروري لعدم ترسيخ سياسة «الإفلات من العقاب»، مشيرًا إلى أن «الاعتراف والاعتذار وتعويض الضحايا وأسرهم»، أهم المبادئ التي يجب أن تتحقق لترسيخ «العدالة الانتقالية»، ومؤكدًا أنه يجب التحقيق في 33 سنة مضت كحدٍ أدنى، بداية من نظام مبارك الذي بدأ في تدمير المؤسسات والقضاء والإعلام، وحتى نهاية عهد الرئيس المعزول محمد مرسي. وعن كيفية اختيار أعضاء اللجنة، أوضح مدير الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان أن رئيس الجمهورية لا بد أن يمنح سلطة اختيارهم إلى وزير العدالة الانتقالية، منتقدًا أداء الأخير بوصفه «أداء محبط». وأضاف أنه منذ إنشاء وزارة العدالة الانتقالية، لم تظهر أي سياسة واضحة للسلطة في تحويل النوايا إلى نتائج، وإنما يتم اقتصار الأفعال الإجرامية على أنصار الرئيس السابق محمد مرسي، وهو ما يمكن أن نطلق عليه «انتقام» وليس عدالة، قائلا: «العدالة اللي تمشي على سطر وتسيب سطر دي مش عدالة، والمجرم لازم يتعاقب أيا كان انتماؤه». واتفق معه حافظ أبو سعدة، رئيس المنظمة المصرية لحقوق الإنسان، الذي أكّد أنه يصعب الحديث حول تشكيل لجان للمصالحة في الوقت الحالي، لأن البلاد ما زالت تشهد موجات من العنف والعنف المضاد، والآراء التكفيرية، ورفض بعض القوى السياسية الاعتراف بالواقع، بالإضافة إلى رفض غالبية المجتمع لتحقيق المصالحة قبل محاسبة المسئولين عن كل تلك الجرائم التي شهدتها البلاد في الفترة الماضية. وأكد أن منظمات المجتمع المدني الآن عليها رصد الانتهاكات والجرائم، ومحاولة فتح آفاق الإصلاح والحوار الوطني، وحث الأطراف المخطئة على الاعتراف بمسؤوليتها عن الجرائم، والاعتذار عنها، لتحصل على حسابها، ووقتها يمكن الدعوة إلى المصالحة الوطنية. كما ذكر: «إننا الآن نمر بفترة من التشتت، وإصرار بعض الأطراف على ممارسة العنف والانتهاكات ضد الغير». أما ناصر أمين، مدير المركز العربي لاستقلال القضاء والمحاماة وعضو المجلس القومي لحقوق الإنسان، فأكد أنهم بدأوا بالفعل في إعداد مشروع يهدف إلى تحقيق آليات العدالة الانتقالية ككل، والتي تعتبر فكرة «المصالحة الوطنية» جزء منها، ويتضمن هذا المشروع الإصلاحات المؤسسية، والعفو عن الجرائم الأقل خطورة، ومحاسبة الجرائم الأكثر خطورة. وأشار «أمين» إلى أن منظمات المجتمع المدني يقع على عاتقها 90% من مهمة تحقيق مشروع «العدالة الانتقالية». وفيما يتعلق بوزارة العدالة الانتقالية التي تم إنشاؤها مؤخرًا، قال إن هناك تعاونا مشتركا بينها وبين المنظمات، وأنها سبق أن أعلنت دعمها لجهود المجتمع المدني. في حين، رأى محمد زارع، مدير برنامج مصر بمركز القاهرة لحقوق الإنسان، أن المصالحة الوطنية تتوقف في المقام الأول على رغبة كل الأطراف في تحقيقها، وهو الشرط غير المتوفر في مصر في الفترة الحالية، حيث ترفض بعض التيارات السياسية الاعتراف بالواقع، مما يؤدي إلى غياب شرط «التوافق المجتمعي»، ويجعل من المصالحة «مجرد حلم». وأكد أنه في حالة وجود نية للمصالحة، لا بد أن يتوافر قبلها مكاشفة بين الأطراف السياسية، واعتذار مرتكبي الجرائم عنها، وتعويض الضحايا، ثم إنشاء ما وصفه ب«الذاكرة»، والتي يتم توثيق فيها كل الأحداث لتصبح جزء من ذاكرة الأمة. وأضاف زارع أن تحقيق العدالة الانتقالية، يحتاج إلى اختيار أشخاص لم يتورطوا من قبل في أحداث العنف، ولم تلوث أيديهم بالدماء، بالإضافة إلى عدم تبنيهم موقفاً ما من تيار بعينه.