على أحد أرصفة المتاخمة لمدافن عين الصيرة، يستفيد عم سنوسى محمد (64 سنة) من صمت القبور كى ينام نوما عميقا، فهو لا يجد ثمن فاتورة إقامته بالقاهرة. سعر الليلة فى أى فندق قاهرى قد يصل إلى600 جنيه، بينما ينزح هو كل رمضان للعاصمة كى يسدد ديون العام، ورغم قسوة المبيت فى الشارع إلا أن عم سنوسى القادم من صعيد مصر يملى شروطه. فلم يكن اختياره لمكان سريره فى رحب شوارع القاهرة عشوائيا، فقد أراد أن يحتفظ بنمط حياته اليومى بقريته الصعيدية داخل العاصمة التى لا تنام. وهو يفضل أن يغفو مبكرا بعد صلاة العشاء، ولكى ينعم بقسط من الظلام، يهرب سنوسى من الشوارع التجارية الكبيرة حيث الأنوار المتوهجة التى لا تساعده على النوم». الأموات هم فقط من ينامون مبكرا فى هذه المدينة الكبيرة». يتهكم عم سنوسى على نمط الحياة القاهرى، موضحا: «اعتدت منذ أربع سنوات على استئجار هذا الرصيف كى أدير عملى التجارى! أفكر أن أورثه لأبنائى الأربعة»، فقد تعود بائع البخور أن يستجلب كمية مناسبة منه وبيع بضاعته التى تشهد رواجا فى العاصمة خلال موسم رمضان والعيد، ثم يعود أدراجه إلى مسقط رأسه بإحدى قرى مركز ناصر بمحافظة بنى سويف، وذلك بعد أن يكون قد نام أكثر من شهر على هذا الرصيف. لا يهاب عم سنوسى مجاورة الأموات، فعفاريتهم لم تعد تخيفه بقدر خوفه من عفاريت الأسفلت من الأحياء. وهو يعتبر النوم فى كنف الأموات أفضل بكثير من الانخراط ضمن أبناء المنطقة الذين يتوجسون من الغرباء. تعرض مثلا فى العام الماضى لحادث بلطجة أجبره على التنازل عن تموين الشهر عندما سرقت شنطة المواد الغذائية التى أعطاه إياها فاعل خير، ثم بقى أياما طويلة فى القاهرة يبحث عن موائد للرحمن يستطيع أن يسد منها رمقه. يعزى عم سنوسى نفسه، بل ويسعى لكسر هاجس الرهبة من مجاورة الأموات، ويقول: «قد يكون ذلك تدريبا مناسبا لمواجهة الموت فى عقر داره». يلخص على هذا النحو فلسفة يسعى لتطبيقها من أجل التكيف مع حتمية النوم فى الشارع التى أوجدتها الحاجة الملحة لتوفير ثمن فراش تحت سقف وأربعة جدران. يطرح النوم فى الشارع القاهرى اليوم تحديا كبيرا أمام هؤلاء الراقدين فوق التراب، بدءا من طيلة فترات السهر لقاطنى العاصمة، مرورا بالانفلات الأمنى، ووصولا إلى سخونة الأحداث الجارية.لكن يظل النوم سلطانا حتى عندما تتحول أرصفة القاهرة إلى فراش كبير، ويخلق النائمون فى العراء قواعد وطقوس ترتبط بخصوصية المكان، فحجراتهم تطل مباشرة على الطريق العام. «لابد من وجود تكنيك حتى يهيمن هذا السلطان على المكان»، هكذا يعلق عبدالحافظ، الطبيب الأربعينى الذى اعتصم أولا فى ميدان التحرير و ثم فى إشارة رابعة العدوية. يقطن عبدالحافظ حى المعادى، لكنه يتوجه كل يومين إلى مدينة نصر، كى يقضى ليلتين فى الشارع. قبيل ثورة 25 يناير لم يكن يعرف هذا النوع من النوم، لكن مع تفجر الثورة أصبح يتنقل بفراش محمول كى يدافع عن الحقوق المهدرة فى هذا الوطن، على حد قوله. وهو يعتبر أن النوم فى الشارع هو أقل ثمن ممكن أن يسدده دفاعا عن ما يؤمن به. تحت خيمة من البلاستيك، قد تصل درجة الحرارة إلى أكثر من 40 درجة فى فترة الذروة. وتكتسب أرضية الاعتصام سخونة تفقدها بالتدريج مع تقدم ساعات الليل، حينها التى يغفو قليلا ولو للحظات. وقد أجبرته التجربة على البحث عن طرق لترطيب المكان بأساليب بدائية مثل رش الماء المثلج على جدران الغرفة. لكن البحث عن الأمن يبقى التحدى الأكبر عند النوم فى مفترق الطرق. يلخص عبدالحافظ تجربته، قائلا: «لقد تعلمت من خبرة عامين فى الاعتصام أن أكيف نومى مع معطيات الشارع، وذلك بعد أن أقوم بدراسة جغرافيا الميدان، فأنام فى الأماكن التى قد توفر حد أدنى من معيار الأمان على الأقل فى ساعات الغفوة. ففى رابعة من الأفضل الاستفادة من منطقة المركز، بينما فى التحرير قد تكون أطراف الميدان أكثر أمنا، وإن كان الوضع يتوقف على عدة معايير منها أماكن الاشتباكات أو الجهة التى قد تتوافد منها مسيرات أخرى على الميادين. فالمعتصم لابد وأن ينام بقدر الإمكان بعيدا عن مواطن تدافع الأقدام أو الزحام حتى لا يلقى بنفسه إلى التهلكة». زملاء الخلاء قيظ الصيف يدفع قاطنى الرصيف لاقتفاء أثر نسمة الهواء والبحث عن «الضلاية»، على حد تعبير تامر أحد الأطفال الذين يعيشون فى الشارع. فى عباس العقاد بمدينة نصر، يعمل تامر (16 عاما، سايس)، ينام يوميا فى الشارع ويذهب لزيارة أسرته كل أسبوعين. فى الشارع يشعر السايس الشاب بنوع من البراح، لم يكن متوافر فى غرفة نومه التى لا يتعدى اتساعها 30 مترا، بل وتتحول ليلا إلى غابة من السيقان، إذ يتشارك فيها مع أشقائه الستة ووالديه. فقد أجبرته إصابة أبيه بجلطة فى المخ للانخراط فى مجتمع الشارع، حتى يدبر مصاريف أسرته. تكاليف العودة لمنزل الأسرة بحى المرج أصبحت دربا من الرفاهية تعود الشاب أن يضحى بها من أجل توفير حفنة من الجنيهات «لزوم الدخان» وخلافه. تعود إذا تتبع حركات الشمس ونقل مكان نومه، طبقا «لمزاج الشموسة»، على حد تعبيره: «فى بداية عهدى بالنوم فى الشارع كان الأمر صعبا للغاية، وكنت أخاف بعض الشىء، لكن مع الوقت أصبح الموضوع عاديا، بعد أن انضممت لمجموعة أخرى من أصحابى الذين ينامون معى على نفس الرصيف». يحتمى تامر بهذه الكتلة البشرية خلال النوم، بالرغم من أن شخير محمود غالبا ما يؤرقه، لكن الجهد الذى بذله طيلة اليوم يلكمه الضربة القاضية رغم صوت الشخير الذى يختلط بكلاكسات السيارات المسرعة. ومع ذلك قد يضطر أحيانا للاستيقاظ واللجوء إلى السيبر (مقهى الانترنت) المجاور، خاصة عندما تقترب مسيرات مؤيدى مرسى التى تتجول فى الحى. توفير قدرا من الخصوصية ليس بالشىء اليسير، خاصة بالنسبة للسيدات. من رصيف عباس العقاد إلى رصيف شارع الجلاء، تفضل أميرة، بائعة المناديل، أن تقضى قيلولتها فى الهواء الطلق. قد يضمن لها السروال الذى ترتديه أسفل ملابسها قدرا من الستر إزاء تلصص الآخرين، لذا تستطيع النوم فى هدوء أعصاب دون شعور بالتقصير فى حق جسدها. تقطن أميرة فى الأساس منطقة أبى زعبل، لذا فهى لا تعود لمنزلها الذى يبعد كثيرا عن وسط المدينة حيث تبيع أغراضها. وعندما يشتد بها التعب والنعاس، تنام أميرة على عتبة إحدى البوابات المغلقة لمؤسسة صحفية. وهى تعتقد هكذا أنها تضرب عصفورين بحجر، إذ تنأى بنفسها عن موطأ أقدام السائرين فى الشارع وتنعم ببرودة الرخام و«سرسوب» الهواء البارد القادم من التكييف والذى يتسلل لجسدها عبر «عقب باب الجريدة»، كما تروى أميرة، مؤكدة أن هذا الطقس يساعدها على الاسترخاء كى تستأنف عملها فى المساء. تعانى من مطاردات مسئولى الأمن، و«تبرطم» فى صوت منخفض إذا حاول أحدهم مضايقتها: «الواحد ما يعرفش يرتاح فى البلد دى! هو الرصيف ده مش بتاع الناس كلها!»، لكن يبدو أن النوم ليس هدفها الأساسى، فوجودها فى الشارع نوع من أنواع التمرد على واقع ترفضه. تروى أميرة مثلا فى سخرية: «منذ أيام ظن أحد المارة عندما رآنى مستسلمة فى نوم عميق أننى قد مت، وبعد نصف ساعة تجمع الناس حولى وبدأوا فى تجهيز مراسم الدفن، لكن بعد مضى ساعتين وجدوا أن الميت قد عاد للحياة. فلم يكونوا يتصوروا أن هناك من يتمكن من النوم بهذا العمق فى مفترق الطريق». وهو ما أضاع عليهم فرصة تشغيل ماكينة البث وطرح افتراضات الموت التآمرية من نسج خيالهم. «الناس فى مصر عايزة جنازة وتشبع فيها لطم». تضحك أميرة. سيمفونية الشخير.. والوسادة الخالية النوم فى الشارع يفرز أيضا أنواعا من الأسرة والوسادات تستمد خصوصيتها من خصوصية المكان. خلف ميدان رابعة العدوية، على أحد أرصفة شارع الطيران أمام المسجد الأخضر، يرتفع شخير حسن سيد، محار، خمسينى. فى سيمفونية منتظمة تتعالى إيقاعات النوم. للوهلة الأولى يبدو الرجل وقد استنزفه النوم على الرصيف الذى يقيم عليه منذ عدة أشهر. يستقيظ منزعجا، أحمر المقلتين، كلما سمع صوت سيارة شرطة أو داهمته آلام الظهر أو نداء الطبيعى الذى يلبيه على شريط المترو. ينام ساعة ويصحو نصف ساعة، ثم يغفو من جديد، وهكذا دواليك حتى شروق الشمس. يقول حسن: «أنام على الرصيف لأحرس دراجتى البخارية التى اصطدمت بسيارة منذ أكثر من ثمانية شهور. فاتورة نقل الدراجة تصل إلى 200 جنيه، بينما لا يزيد معاشى عن 700 جنيه، أدفع نصفهم كإيجار لمسكن أسرتى المكونة من خمسة أفراد فى حى الشرابية. أبات فى الشارع حتى أدبر نقود النقل من خلال تجارة بيع الكبريت». بمرور الوقت، استطاع عم حسن أن يكيف فراشه وفقا للأرصاد الجوية. السرير الكارتونى صيفا يكتسى بالخيش شتاء، وإن كان أحد المارة قد أهداه بطانية كى تقيه من برودة ليالى طوبة، بينما يتحول سحوره وشنطة الخير التى حصل عليها بمناسبة رمضان والعيد إلى وسادة. يحتفظ عم حسن، أسفل فراشه، بسلسلة كى توقظه عند محاولة أحدهم سرقة قطعة أخرى من دراجته البخارية، بعد أن استولى اللصوص على البطارية بالفعل. تفرز أيضا «نومة» الشارع أنماطا أخرى من الأَسرة. فى الحديقة الدائرية، لمسجد السيدة نفيسة، ينام محمود الشريف وزوجته على شال أخضر، بينما تتحول شنطة الزاد والزواد إلى وسادة للزوجين. يرتفع صوت القرآن فى صلاة التهجد، وتتلألأ الأضواء المنبعثة من ضريح سيدة المقام. ورغم تلك الطقوس الاحتفالية يعتقد الشريف القادم خصيصا من المحلة أنه ينعم بشىء من السكينة والهدوء إلى جوار السيدة نفيسة، بل وكثيرا ما تأتيه رؤى محببة ومبشرة. بعد خروج المصلين عقب صلاة الفجر، يقرر الزوجان أن يفترقا، إذ يتجه الشريف إلى مصلى الرجال بينما تلحقه زوجته إلى المكان المخصص لصلاة النساء. ويستبدل الثنائى فرشتهما «بجزامات» الأحذية التى ينامون عليها حتى آذان الظهر.