يُحكى أن العدو كان يحاصر المدينة ويدق الأبواب، فى حين كان أهل بيزنطة (1453م) مجتمعين حول الكنيسة منشغلين بجدال عقيم حول الملائكة؛ وإذا ما كانوا ذكورا أو إناثا. فكان الطبيعى أن تسقط المدينة التى كانت قد صمدت فى وجه أعدائها أحد عشر قرنا كاملة. شىءٌ من هذا يحدث فى مصر الآن، التى انشغلت بتوصيف ما حدث، غير عابئة بأن «الدولة» ذاتها فى خطر، وأن العدو يحاصر المدينة ويدق الأبواب. وأننا مهددون بالعطش والإرهاب فضلا عن عودة نظام فاسد قديم يكشر عن أنيابه بلا خجل أو حرج. بل وأسوأ من كل ذلك «سيناريو سوري» يلوح به ويهدد من أفقدته الصدمة ليس فقط حكمة واجبة، بل وما هو أكثر من ذلك بكثير.
إنقلابٌ.. أم ثورةٌ.. أم استكمالٌ لطريق بدأ فى يناير 2011 ولم يصل غايته بعد؟
سيعكف على الأمر الأكاديميون، وقد فعلوا. أما نحن فسنختلف طبعا، وسيأولها قطعا كلٌ حسب المربع الذى يقف فيه. وسيبقى الثابت الوحيد أن السؤال، هو فى هذه الظروف، ووسط هذه المخاطر والدماء.. «بيزنطي» بامتياز.
لست منشغلا بالبحث فى القواميس عن تعريف لهذا المصطلح أو ذاك. إذ أحسب أن المعانى والنتائج على الأرض أهم بكثير من الأسماء. فليست كل هيفاء دَقَّ خِصْرُها، ولا كل نجلاء واسعة العينين؛ كما تقول معاجم العرب. فضلا عن حقيقة أن تاريخنا السياسى حافل هو أيضا بالأمثلة. فحسب مرويات كُتبت بحبر التعصب والذهب والمذهبية، لم يكن، قديما كل «أمير للمؤمنين» جديرا باللقب، ولا كان حديثا «لملك ملوك أفريقيا» من اسمه أى نصيب.
●●●
لا شيء يسُر فى الإطاحة «هكذا» برئيس مدنى «منتخب»، بعد أن رفضت جماعته «بعناد» العودة «الى الصناديق» فى انتخابات مبكرة كان أول من دعا إليها قياديها القديم عبدالمنعم أبوالفتوح. ثم كان أن رفضت أيضا فى الساعات الثمانية والأربعين الأخيرة «الاحتكام الى الصناديق» فى استفتاء يخرجنا من «حتمية» ما جرى، بتفاصيله التى ما كان يرغب فيها أحد، والتى كان لها أكثر من بديل. ولكنها حالة الإنكار Case of Denial التى تعرفها كتب الطب.
ولا شيء يسُر فى أن ينتهى بنا الأمر الى آخر طريق استقطابٍ خطرٍ حذرنا منه مرارا وتكرارا. فتضيق بنا السبلُ فلا نجد أمامنا حلا «واقعيا» يضمن استقرار هذا البلد ووئام أبنائه.
ولا شيء يسُر فى أن يصبح خطاب المنصات الأهوج، وتفجيرات ورصاصات مريبة هنا وهناك، مبررا لاستدعاء إجراءات استثنائية ستعصف حتما بالحريات وحقوق الإنسان.
وفوق كل ذلك، لا شيء قطعا يسر فى هكذا استهانة؛ «كلمة تحريض أو رصاصة غير منضبطة» بدماء بريئة، سنُسأل عنها حتما يوم نقف جميعا أمام الواحد الديان.
كل ذلك صحيح قطعا. وصحيحٌ أيضا أننا سنختلف؛ بحكم الثقافة والأهواء وزاوية النظر حول التعريف «النظري» لما جرى، أو حول غرور القوة أو العناد الأحمق الذى جرنا اليه، ولكنى أحسب أننا نتفق جميعا على أن البكاء على اللبن المسكوب، أو الانشغال «كليا» بمن سكبه، لا يأتى بالضرورة فى مقدمة أولويات «عاقلة» قد لا تنشغل «الآن» بمن سكب اللبن، أو بالأحرى كسَر الجرة، بل تنشغل «أولا» بالحيلولة دون إراقة مزيد من الدماء، فضلا عن إنقاذ ما تبقى من مكتسبات ليناير 2011 بدا أنها ضاعت بعد عامين ونصف من المؤامرات والأنانية وقصر النظر والعناد، فضلا عن الإدارة «غير الحكيمة» للمرحلة الانتقالية.
●●●
أما وقد انتهى فقيهُنا البشرى (الشروق : 10 يوليو 2013) إلى أننا بتنا أمام «معضلة» تتمثل اختصارا فى استحالة العودة الى ما قبل الثالث من يوليو، والى خطورة التفريط فى المسار الديمقراطى فى آن واحد. فأظن إدراكا «واعيا» بذلك؛ غاب للأسف ربما عن الزاعقين والمتاجرين بدماء أبنائهم، بل وأيضا عن بعض المنزلقين «على الناحية الأخرى» الى أبعد مما قد لا يدركون آثاره ونتائجه، وأحسب أن إدراكا «غير زائفٍ» لحتمية الواقع ومخاوف المستقبل «معا» من شأنه أن يدفع الى الطاولة بالسؤال الأهم. ولعله الوحيد الأولى بالاهتمام الآن: ثم ماذا بعد؟
واقعيا.. ها نحن، وبغض النظر عن تفاصيل «حاولنا تفاديها»، فى طريقنا الى الصناديق فى انتخابات رئاسية وبرلمانية أُعلن عنها وعن توقيتاتها. وعلينا، وبغض النظر عن مرارات تراكمت، وإن كنا نبحث حقا عن مستقبل لنا «جميعا» فى وطن يليق بالقرن الواحد العشرين، أن نذهب اليها «جميعا»؛ بلا تخوين أو تكفير، وأن نحرص على نزاهتها «جميعا». باحثين عن مكان للجميع فى الشمس «الكاشفة» بدلا من خلق مناخ يسمح بعودة النظام المشوه القديم، أو يجد فيه البعضُ ضالته مرتاحا الى لعب دور «الضحية». وهى حالة أيضا يعرفها علم النفس.
وتفصيل ذلك أنه رغم حوار دائر ومهم حول ما كان غير مرة من «عسف» فى استحضار الدين بأفكاره اليقينية المطلقة الى ساحة السياسة بنسبيتها ومرونتها.. مما أساء فى نهاية المطاف الى صورة كليهما (حدث ذلك مثلا فى ربط قسرى بين شريعة الله وشرعية الرئيس، وفى معارضة البعض للرئيس لموقفه من السياحة الإيرانية، وفى ما جرى فى الصالة المغطاة لاستاد القاهرة، فضلا عن ربط «آثم» بين صحة إيمان المرء واتجاهاته التصويتية.. وغير ذلك كثير)، إلا أن إدراكا واعيا لحجم «ظاهرة» الإخوان المسلمين، يجعل من الخطورة التفكير فى استئصالٍ أو إقصاءٍ للمنتسبين اليها، أو إعادتهم مرة أخرى الى «صندوقهم المغلق» بعيدا عن الشمس والهواء. وهما بحكم قوانين الطبيعة الكفيلان بالقضاء على ما يتراكم عادة فى الأماكن الرطبة المظلمة.
يتصل بذلك (بعد أن نُحَذِّر كل من أعمته حساباته عن اعتبارات الأمن القومي) ضرورة أن نَحْذَر من كل ما من شأنه «مستقبلا» أن يمثل نكوصا عن مكتسبات ليناير 2011؛ ملاحقة على الهوية، أو اجراءات استثنائية، أو مصادرة لحريات اعلامية، أو تمهيدا لدولة بوليسية / عسكرية لا تعرف ما عرفه العالم الحديث من حريات وحقوق إنسان. أو عودة لنظام قديم تبدو شخوصه ماثلة تتراقص فى المشهد الغائم غير واضح الأفق.
ثلاث محددات أحسبها لازمة للمستقبل القريب والبعيد:
1 أن أمن مصر القومى ووحدة أراضيها فوق كل اعتبار. وأن «تماسك جيشها» وقوته هما الضمان الأول لأمن مصر وشعبها. وعلى الجميع مصريين «وأشقاء» أن يدرك حقيقة أن جيش مصر هو الجيش «العربي» الوحيد الباقى فى المنطقة، بعد أن جرى ما جرى فى العراق وليبيا وسوريا.
2 أن عثرات الحاضر وارتباكاته «وخطاياه» لا ينبغى أن تثنينا عن المضى قدما على طريق الديمقراطية الحقيقية لنبنى دولة حديثة معاصرة «لجميع أبنائها بلا استثناء» تليق بمصر فى عالم اليوم. ومما يقتضيه هذا أن يصبح الإعلان الدستورى الأخير «استثنائيا»، وألا يتسرب ما فيه من أفكار «استثنائية» الى دستور دائم نحلم به معاصرا وديمقراطيا.
3 إن الاشتراطات الخمسة المتعارف عليها للتحول الديمقراطى Transitional Justice والتى غابت «أو غُيبت» عن المرحلة الانتقالية الطويلة (عامان ونصف حتى الآن) ينبغى أن تعود لمكانها الطبيعي؛ فهما وإدراكا وسياسات، أملا فى أن نلحق بما فاتنا، وحتى لا نبكى مرة أخرى على اللبن المسكوب (راجع «الشروق»: 24 فراير 2013)
●●●
وبعد..
فقد نختلف، ولكننا بالضرورة نتفق على أن لكل نتيجة مقدماتها. وأن الأثر يدل على المسير. وأن من كان يريد رفعة الإسلام فإن «الإسلام حيٌ لا يموت». ومن كان يريد الحفاظ على الوطن، فمصر باقية الى أن يشاء الله. أما من كان يبحث عن شيء آخر فلكلٍ وجهة هو مُوَلِّيها.
هل ما زلنا ننشغل بتعريف ما جرى (!)
وقانا الله شر الجدال، وشر «بيزنطة» التى ما زالت تحلم بتاريخها.