4 سألته عن أخطر مهمة أداها في حياته الدبلوماسية التي تجاوزت وقتها عشر سنوات، فقال الدبلوماسي الشاب بضحكة مجروحة أنها كانت مهمة غذائية أداها حين كان يخدم في مدينة أوروآسيوية زارها الراحل كمال الشاذلي الذي هفت عليه الملوخية فطلب أن يأكلها على العشاء، ليتم تكليف الدبلوماسي بأن يجيئ بالملوخية في مدينة لا تعرف الملوخية، لينجز المهمة بفضل مصري مهاجر كان لديه مخزون استراتيجي من الملوخية، تذكرت تلك الواقعة قبل أيام عندما سمعت من رجل محترم ليس مولعا بالتشنيعات حكاية عن استعدادات مكثفة قام بها أحد السفراء لإستقبال الدكتور محمد مرسي بصنف تنفرد زوجة السفير بطبخه ألا وهو «محشي الشبت»، وبالفعل حقق الصنف نجاحا ساحقا لدى الوفد الرئاسي بأكمله، وقد كان ذلك النجاح الوحيد الذي نتج عن زيارة مرسي لذلك البلد المهم على أية حال. لا أقول أن العمل الدبلوماسي في مصر يقتصر على ضمان الأمن الغذائي لكبار المسئولين العابرين على سفاراتنا في الخارج، فبالتأكيد لذلك الكم المهول من السفارات الذي ننفق عليه ملايين الجنيهات فوائد عظيمة، صحيح أنني لا أعرفها لأنني لم أصادف تقريرا رسميا يشرح للشعب المصري طبيعة الدور الذي تقدمه السفارات والقنصليات المصرية، وهل يستحق كل شخص فيها أن يكون في مكانه أم لا؟، أعرف أن هناك عددا من الدبلوماسيين المتميزين نقرأ لبعضهم مقالات بديعة في الصحف، لكن ذلك لن يغير أن طبيعة الدور الذي تقوم به البعثات الدبلوماسية لا زال غامضا، وهذا ليس رأيي لكي لا أتهم بأني أهرف بما لا أعرف، بل رأي واحد من أعمدة الدبلوماسية المصرية، هو الدكتور بطرس بطرس غالي، ذكره بصريح العبارة في كتابه (بين القدس والنيل) الذي روى فيه يومياته خلال عمله كوزير دولة للشئون الخارجية تحت رئاسة حسني مبارك، حيث كتب في 16 مايو 1989 أنه التقى في مطار نيروبي بالسفير المصري وبصحبته الملحقة الصحفية الجديدة «إنها سيدة عبوسة تتشح بملابس سوداء، وهي أرملة لديها أولاد كبار، من المؤكد أن هذه هي أول مهمة لها في أفريقيا، وهي بالطبع لا تتحدث اللغة السواحيلية ولا تتقن الإنجليزية، هذا هو السبب في ضعف الوجود الثقافي المصري في الخارج، وخصوصا في أفريقيا، لأن اختيار مستشارينا الثقافيين وملحقينا الصحفيين لا يتم حسب الكفاءة، بل يتم بناء على معايير غامضة تتدخل فيها العلاقات الشخصية، وطالما استمر الوضع على ما هو عليه فإن نوعية ممثلينا في الخارج ستظل دون المستوى المطلوب وسيظل أداؤهم أيضا دون المستوى المطلوب»، وفي يونيو 1988 يروي غالي أن السفير المصري في زائير شكا له مطولا من المشاكل التي يلاقيها من البعثة العسكرية المصرية «فالقليل من ضباطنا يجيد اللغات الأجنبية، والقليل منهم أيضا يقدر على تقديم المساعدة التقنية».
في موضعين متفرقين من يومياته يخرج غالي عن تحفظه ليرسم صورة للصراعات التي تدور بين الدبلوماسيين، ففي 9 يوليو 1985 يروي كيف أفضى إليه مساعده أحمد صدقي أن «أحد سفرائنا بدون ذكر أسماء قد زل ووقع في غرام شابة أثيوبية وأنه يقضي لياليه في بيت الدعارة الذي تعمل فيه هذه الفتاة، وبعد قضاء السهرات والليالي الماجنة هناك، يأتي السفير إلى العمل وهو في إرهاق وسعادة، قابلتُ هذا السفير العاشق، بالفعل يبدو سعيدا ومرهقا فهو ينام طوال جلسات المؤتمر». وفي سبتمبر 1985 يروي أن مبارك اتصل به وهو غاضب وطلب منه معاقبة قنصل مصر في إيلات لأنه يتنزه بسيارة العمل وبصحبته شابات إسرائيليات، لكن بطرس بعد التحقيق في الموضوع اتصل بمبارك ليخبره أن التقرير الذي تسلمه مغلوط لأن القنصل ليس تحت تصرفه سيارة رسمية أصلا، وأن الذي زرّه الشكوى استغل فقط تفصيلة أنه يقيم في ايلات من غير زوجته، وهنا يعلق غالي قائلا»هناك دوما حروب تدور رحاها وبلا هوادة بين أعضاء البعثات الديبلوماسية وبين السفارات والقنصليات».
بالطبع يشير بطرس غالي في يومياته إلى أسماء ديبلوماسية تؤدي عملها بكفاءة، لكن كل ما يرويه يؤكد حقيقة مريرة هي أن مجهودات جميع هؤلاء بل ومجهوداته هو تذهب دائما أدراج الرياح إذا لم تتوافق مع رغبة رئيس الجمهورية، فبرغم أن غالي أكد لمبارك كثيرا على أهمية اللجوء إلى الطاقة النووية لأن موارد مصر البترولية ستنفد خلال عشر سنوات، إلا أن مبارك في فبراير 1986 أهدر فرصة خطيرة كان يمكن أن تغير مستقبل مصر، عندما عرض عليه رئيس الجابون مارتن بونجو وضع مخزون اليورانيوم الخاص ببلاده تحت تصرف مصر إذا قررت بناء محطات نووية، فرفض مبارك الطلب قائلا أن مصر ليس لديها الأموال اللازمة لبناء هذه المحطات، مع أن غالي يجزم أن ذلك كان ممكنا بالتعاون مع الهند وباكستان، لو قررت مصر أن تتصرف دون مراعاة للرضا الأمريكي، وهو ما جعلها مثلا توقف غالي عن زيارة موسكو لمدة تسع سنوات كاملة لكي لا يغضب الأمريكان مع أنهم لم يطلبوا ذلك صراحة. ستجد ملمحا آخر لأزمة ارتباط الدور الديبلوماسي بشخص الرئيس هو تضاؤل دور الخارجية مقارنة بدور الأجهزة السيادية التي تتعامل مع الرئيس مباشرة، فمبارك مثلا يتجاهل معلومات غالي حول إنتماء قادة الإنقلاب العسكري في السودان عام 1989 للتيار الأصولي، ويعتمد معلومات المخابرات التي تشيد بقادة الإنقلاب، ولم تكتف المخابرات بذلك بل قامت بمواجهة غالي باستياءها من موقفه في اجتماع وصفه بأنه عسير.
عندما تقرأ كل تلك التفاصيل لن تستغرب كيف تحول وزير الشئون الخارجية إلى مدير تشريفات يلومه الوفد الرئاسي بشدة في يوليو 85 لأنه لم يوفر للوفد إقامة فاخرة خلال زيارة الرئيس لأديس أبابا، ويتم تجاهل تفسيرات غالي بأن الإقامة تتم حسب إمكانيات إدارة المراسم الأثيوبية وأنه لا توجد فروق بين مقار الإقامة المخصصة لبقية الوفود، يروي بطرس غالي ذلك بمرارة دون أن يخبرنا للأسف ما الذي طبخته زوجة السفير يومها للوفد الرئاسي وهل كان صنفا نادرا كمحشي الشبت أم لا، لنعرف كيف كنا وكيف أصبحنا؟.