أدهشت الاحتجاجات الحالية فى المدن التركية بعض وليس كل المراقبين أو المتابعين للشأن التركى. فلقد كان الاعتقاد السائد أن نظام أردوجان جول ترتكز دعائمه على شعبية هائلة تعضدها إنجازات كبرى فى المجالات التنموية، جعلت تركيا تكاد تحتل المكانة السابعة عشرة فى قائمة اقتصادات العالم الكبرى فى فترة عشر سنوات أو يزيد، فضلا على سياسة خارجية نشطة على مختلف الأصعدة والمحاور، حتى سماها بعض المراقبين محاولات أنقرة الدءوبة إحياء الإرث الامبراطورى العثمانى. فى الحقيقة، فإن ثمة عبرات مستفادة من تلك الاحتجاجات ينبغى أن نستخلصها لعلها تكون ذات فائدة ما لأى نظام بالمنطقة يسعى لتوطيد أركان شرعيته: أولا: حدود «الاختيار الديمقراطى»
لأن منطقتنا حديثة العهد بالممارسة الديمقراطية، يستوى فى ذلك الأنظمة الجديدة والقديمة، فلقد وجد كثيرون ضالتهم فى التمسك بأحد مظاهر الديمقراطية دون الأخذ بجوهرها! فزعموا أن «الصندوق» وحده هو الحكم والفيصل، وأن ما يفرزه «الصندوق» هو الخيار الأوحد الشرعى غير القابل للنصح أو التقويم إلى آخر مثل تلك التوهيمات! حقيقة الأمر، أن «الصندوق» هو الخطوة الأخيرة فى العملية الديمقراطية، وليس أبدا بدايتها. فلكى تكون هناك ديمقراطية حقيقة فلابد أن نستمسك بمبادئها فى الحكم ونسترشد بأهدافها فى الأداء. باختصار لا توجد ديمقراطية تعارض العلم أو العصر، أو تقحم الدين فيما لا يجب إقحامه به. ولا تصح ديمقراطية تتجاهل جميع فصائل الوطن وتهمشها سعيا للاستئثار بالحكم! إن نضج أى نظام ديمقراطى يتمثل فى الكيفية التى يدرك بها حقوق معارضيه ويسعى لتلبية مطالبهم بالقدر المستطاع شأنهم فى ذلك شأن مؤيديه لا أكثر أو أقل، وشرعية هذا النظام ترتبط ارتباطا وثيقا بما يظهره من احترام حقوق الإنسان، وحكم القانون، ومبادئ الفصل بين السلطات. البادى أن أردوجان قد تصور فى ضوء إنجازاته الكبرى إن الديمقراطية تخوله أن يفعل له ما شاء كيفما شاء، وهو ما يخالف الديمقراطية التى تستلزم تحقيق توافق شعبى دائم.
ثانيا: «الهوية»
هوية أى دولة هى حصاد متراكم من تفاعلات الدين مع التاريخ والجغرافيا والعادات والتقاليد. الهوية هى إذن كائن حى يواصل النمو والتحرك، ولكن فى إطار من الثبات، وهو قابل للتغيير الطفيف المتدرج وليس المفاجئ أو القسرى. بناء عليه، فإنه لا يحق لأى أغلبية أيا كان نسبتها أن تفرض رؤاها على المجتمع بما يخالف أى من القواعد السالفة أوأن تسعى إلى تغيير مكونات ومقومات الدولة أيا كانت، لأنها بداهة لا يمكن أن تستمر فى الحكم بل إن تداول السلطة حقيقة ماثلة للعيان نظرا لتقلب مزاج الناخبين وفشل أو نجاح البرامج الانتخابية وهكذا! لا تعنى هذة المقالة بتفنيد طبيعة الهوية السائدة فى تركيا، عما إذا كان الأصوب أن تكون علمانية بحتة أم إسلامية، فهذا ليس شأننا. المراد فقط التبصر بأن الهوية السائدة فى أى دولة هى أكبر من أى نظام سياسى، ولا يستطيع أى حاكم أو نظام مهما كانت شعبيته أو ارادته أن يقهر أو يطمس هوية شعبه، مهما كان حجم إنجازاته على أرض الواقع! ولربما حاول النظام الحاكم فى تركيا أن يطمس إرث الأتاتوركية التى همشت دور الدين عند وضع لبنات الدولة التركية الحديثة دفعة واحدة وهو ما لا يروق لقطاعات سياسية وشعبية واسعة فى تركيا.
ثالثا: «دور المعارضة فى تصويب المسار»
مثلما ذكرنا فلابد لأى نظام سياسى أن يسعى لتطبيق رؤاه وسياساته بالشكل «المرضى» للسواد الأعظم من الشعب، إلا أن هذا يعنى نهاية الأمر أو غايته. فى الحقيقة فأن أى نظام عليه أن يتوقع، فى ذات الوقت، أن أى سياسات يتخذها وينجم عنها تغييرات لابد أن يستتبعها معارضة أو رفض من قبل قطاعات أو قوى شعبية. المهم أن يسعى أى نظام بكل طاقته أن يسير فى حدود المنطقة الآمنة التى تتوسط الحاجة إلى تطبيق رؤاه من جانب، والحرص على عدم استثارة أو تصعيد الغضب الشعبى حياله من جانب آخر. بيد أنه فى جميع الأحوال سيظل المتضررون على امتعاضهم ورفضهم لأى سياسات مهما كانت. فمن القوى السياسية التركية القومية مثلا من يرون أن أردوجان يفرط فيما لا يجب أن يفرط فيه عند تعاطيه مع المشكلة الكردية، وهناك من القوى اليسارية من يعترضون على ما يسمونه «الرأسمالية المتوحشة» التى باتت تركيا تسير على دربها، وهكذا. وغنى عن البيان أن حكمة أى نظام تتوقف أيضا على سرعة إدراكه أن عجلة القيادة قد انحرفت بأكثر مما ينبغى، فيسارع إلى تعديل المسار لمراعاة التوازن بين المصلحة الوطنية مثلما يراها، وقدرة الآخرين على التفهم والاستيعاب والتحمل. من هنا جاءت دعوة الرئيس جول للمعارضين بالهدوء وطمأنتهم بالتأكيد على أن رسالتهم قد وصلت.
وختاما، فإن مصلحة مصر العليا تستوجب منا جميعا سواء طرفا حاكما أو محكومين أن نستبصر فى تبعات الأزمة التركية الحالية وغيرها لاستخلاص الدروس والعبر، وأن يعضد بعضنا بعضا كى لا ننغمس فى الاضطراب الحالى إلى منتهاه، حتى لا نكون بذلك قد تورطنا فى عملية سياسية عبثية تتشح بمظهر ديمقراطى ليس أكثر.