هل أحببتُ القاهرة، أم قاهرة التسعينيات بالتحديد؟ والذين أحبوها فى العشرينيات أو الخمسينيات، وغير ذلك من أزمنتها الزاهية، هل أحبوا المدينة كمكان على خارطة وكوكب، أم أحبوا شبابهم وحقبتهم الوردية على أرضها وفى فضاءاتها، ثم حزموا حقائبهم ورحلوا؟ من منا يعشق المدن نفسها؟ ومن منا يعشق نفسه فى مراياها القديمة؟ هذا الحنين الحجرى الذى يسكننا بملامح مدن، أهو نحت يجمع بين أرواحنا وأحجارها؟ أم هو صورتنا العابرة فى نهر زمن، نعتبر لحظة منه زماننا، ونثبتها كفراشة بدبوس على لوحة من مخمل؟ كم من ذكرياتنا أسفلت الشوارع؟ وكم منها ما هدرناه من خطى وظلال؟ وهل فى وفائنا لمدينة ما جذور شجرة وعمود بناية وبئر؟ أم أنّ شغفنا بهذه الأشياء يقتصر على أطيافها وأصدائها، وعلاقتنا الحميمة بما تحوكه من خيوط أقدار ومشاوير فى شال يرفرف وراءنا؟
●●●
لطالما لاحظت أن الذين يجاهرون بعشقهم لمدينة ما، القاهرة مثلا أو بيروت، يقرنون هذا الوجد واسم المدينة المعشوقة بمرحلة زمنية معينة. يأتى شخص ويحكى لك عن حبيبته الفاتنة بصيغة الماضى، بنبرة عاشق قديم يتغنى بمدينة على أطلال على لسانه. يصف لك ولعه بقاهرته أو بيروته، دون أن تعنيه بأكثر من الحسرة والأسف القاهرة الحالية أو بيروت الآن. وكأنه يروى لك قصته مع حبيبة ميتة يرثيها بورد الكلام، دون أن يشعر بأنه معنى أو مسؤول عن أشواك حاضرها.
نادرا ما نصادف مثل هذه القطيعة بين زمنين حين نمر على ذكر مدينة أوروبية أو عالمية. وكأن الحنين المرتبط بمرحلة بعينها يقتصر على المدن العربية دون سواها. كأنما باريس ولندن ونيويورك مدن دائمة، مدن من أزل وأبد، ومدننا فى المقابل مؤقتة، لا تشبهنا إلا لبرهة فى خيط رحلة.
هل تنبع حكاية الحقب هذه من تبدل مدننا وتغيرها جذريا بين عقد وآخر؟ أم أنه مفهومنا المغلوط عن الحب، وكأنه الذروة فقط، الوهلة فى وهجها والوردة فى أوجها؟
●●●
الذين عشقوا مصر فى عهد الملك والاستعمار، أنكروها تماما بعد الثورة. والذين هاموا بها فى عهد جمال عبدالناصر، انهالوا عليها بالسكاكين إثر النكسة، وكرهوها فى عهد أنور السادات والمعاهدة، وقاطعوها كمن يعاقب طفلة كبرت فى حضنه بمطرقة على الأصابع! والذين ألفوها مثلى فى عهد حسنى مبارك، يشكون غربتهم بعد ثورة 25 يناير، وما جاءت به، ويرددون بأن مصر التى فى خاطرهم لم تعد بلدا يعرفونه ويسكنون إلى ترابه وتفاصيله على خارطة العالم.
ما هى مصر التى فى خاطرنا؟ أى مصر من صور مصر المتعددة مصرنا الحبيبة؟ وهل من المنطقى أن نحب بلدا وفق أحلامنا فقط؟ هل المدينة مسئولة عما خذله العالم فيها وفينا؟ أليس الحب المشروط مصلحة، أكثر مما هو حلم مفتوح على ضفتين؟ كم نحن آباء قساة لا يحبون أطفالهم إلا جميلين وناجحين. كم نحن نقاد بمشارط لا يدركون أن الإبداع ليس سوى تحولات الروح والحالة والتعدد اللا نهائى فى سبيل نهر، أو مجرد دمعة على هدب. كم نحمل المدن فوق طاقتها. كم نؤلم الحجر بأحلام ينبغى أن تجنحه وترفعه إلى أعلى.
من المعيب أن نهجر إنسانا فى محنة، فما بالكم بمدينة بكلّ ناسها!
●●●
القاهرة ليست درعا أو راية انتصار. القاهرة مدينة تنوء تحت حمولها اليومية، وتحت أثقال الأحلام التى عجزنا عن تحقيقها كأفراد، فألقينا بها على عاتق مدينة بكتفين منهكتين.
نكرر ما فعله الآباء، والأسلاف من قبلهم، نحن الذين كنا نلومهم على قساوة قلوبهم.
لا حاجة للقاهرة بحناجرنا ومناديلنا المبتلة، ولا بيروت ولا دمشق ولا بغداد مشاجب لمعاطف دموعنا وقبّعاتنا. هذه المدن أشجار تحتاج أن تعتنى بها كما لو أجسادنا أو صغارنا. أن نحنو عليها، ونمسح على كل جرح، ونشذب بأيدينا الأغصان التى أحنتها الأوراق اليابسة.
إن كنت قد أحببت قاهرة التسعينيات فحسب، فهذه القاهرة وراء نفسها، لا تستعاد، ولن تعود. وإن كنت قد أحببت القاهرة بالمطلق وبلا شروط، بالوسع الذى يتوسمه الحب فى قلب من يدعيه، فالقاهرة على بعد جناح، متى ما أردت أن أحلق نحوها.
●●●
الحقائب لا تسع المدن. الحقائب بالكاد قادرة على احتواء بضعة تذكارات. أما القلب، القلب العاشق حقا، فهو المتحف الحى لكل مدينة أحببناها. بوسعه أن يحفظ كل ظل مضى، وأن يظل مؤمنا نابضا بأمل مدينة، ويقين عشاقها بجوهرها على مر العصور.
الحنين فى عمقه حالة من التخلى والخذلان. الحنين يفرض صيغة الماضى. له وجه شاحب دائما، وابتسامة بطعم تنهيدة. ليس هذا ما تستحقه منا مدينة، سمحت لنا ذات يوم بالمشى على ملامحها بأحذيتنا. إن كانت المدن قد هرمت إلى هذا الحد، وصارت عجائز لا تشبه حكايات حب قديمة جمعتنا بها، فهذا ما فعله الزمن فيها وفينا. ليست المدن صورنا القديمة. المدن وما آلت إليه، مرايانا.