لم يكن جورج بوش هو أول من أدخل الدين إلى السياسة الأمريكية ولم يأت باراك أوباما لكى يخرجه منها. فإذا كان الرئيس الأمريكى السابق جورج بوش أحد أكثر الرؤساء الأمريكيين استشهادا بالنصوص الدينية لتبرير الكثير من موافقه فإن الرئيس الحالى باراك أوباما هو الذى أسس مجلسا استشاريا لشئون الأديان فى البيت الأبيض. وما بين بوش الذى يرى فى الدين عامل صراع وأوباما الذى يعتبره نقطة تلاق يتأكد بوضوح الدور الذى يلعبه الدين فى السياسة الأمريكية مهما كان الطابع العلمانى للنظام السياسى الدستورى فى «بلاد العم سام». بمجرد دخول أوباما البيت الأبيض، وقبل مرور مائة يوم على رئاسته، شكل أوباما مجلسا استشاريا لشئون الأديان يضم 25 خبيرا علمانيا ودينيا، مهمته دعم إدارته بالمشورة حول دور الدين فى صنع السياسية الخارجية لتجنب الصدام مع أصحاب الديانات الأخرى غير المسيحية على غرار ما حدث بإدارة الرئيس جورج بوش السابقة. ورغم أن دستور الولاياتالمتحدةالأمريكية لا ينص على دين رسمى للدولة فإن العقدين الماضيين شهدا نفوذا متناميا للدين فى السياسة الأمريكية الخارجية مع تسلل المحافظين والمحافظين الجدد إلى مفاصل صناعة القرار. وفى ظل ما يبدو انقلابا «أوباماويا» على سياسات بوش ورؤاه يدور الجدل فى واشنطن حول كيفية تأثير الدين فى عملية صنع القرارت الخاصة بسياسة الولاياتالمتحدة مع المجتمع الدولى، خاصة مع وجود جماعات ضغط دينية محافظة من المتوقع أن تمارس على أوباما ضغوطا قوية خلال السنوات القادمة، وعلى رأسها طائفة الانجليكيين والتى يبلغ عدد أتباعها أكثر من 16 مليونا ولديها أكثر من 42 ألف كنيسة عبر الولاياتالمتحدة، وقد لعبت هذه الجماعة دورا كبيرا خلال الحرب على العراق وكانت صمام الأمان لإدارة بوش فى توجيه الرأى العام الأمريكى سنة 2002 لتأييد قراره بغزو العراق. وقد شاركت «الشروق» فى أعمال منتدى بحثى عقد فى جامعة بوسطن، بولاية «مساتشوسيتس»، حول دور الدين فى صنع السياسة الخارجية الأمريكية. ركزت أعمال المنتدى على عامل الدين والعقيدة فى صنع السياسة الخارجية الأمريكية، وناقشت جلسات المنتدى تأثير البروتستانتية، والكاثوليكية، واليهودية على عملية صنع القرار الأمريكى فى قضايا السياسة الخارجية، إضافة إلى بحث قضايا تتعلق بقانون حرية العبادات الذى تقترب ذكرى مرور عشر سنوات على إقرار الكونجرس له، كذلك ناقش المؤتمر عامل الثقافة، وكيف يمكن أن تغير السياسة ثقافة المجتمعات التى تعرقل التطور السياسى والاقتصادى. شارك فى المنتدى، الذى نظمه معهد «الدين والثقافة والسياسة الخارجية» فى جامعة «بوسطن»، رجال دين يمثلون الديانات الثلاث المسيحية واليهودية والإسلام، إضافة إلى خبراء من مختلف قارات العالم. ورأسه الدكتور بيتر بيرجر، أحد أهم علماء علم اجتماع الأديان فى العالم. ويأتى هذا المنتدى فى وقت تتشكل فيه التصورات الأولى لما ستذهب إليه إدارة أوباما فى علاقاتها بدور الدين فى صنع سياستها الخارجية، وإذا ما كان الدين سيلعب أى دور، خاصة بعد أن شهدت السنوات الأخيرة زيادة فى دور الدين فى صنع السياسة الخارجية فى عهد الرئيس الجمهورى السابق جورج بوش. يذكر أن الولاياتالمتحدة تعرضت لانتقادات كثيرة بسبب إهمال صانعى السياسة الخارجية للعامل الدينى، الأمر الذى نتج عنه تجارب أليمة لواشنطن، ففى عام 1979 استيقظت الإدارة الأمريكية على انتصار الثورة الإسلامية بقيادة آية الله الخومينى فى إيران. ولم يقتصر الأمر على إيران ولا الإسلام فحسب، بل إن الكنيسة والمسيحية لعبا دورا رئيسيا فى قيادة حركة التحول الديمقراطى والخروج من العباءة الأمريكية فى دول أمريكا اللاتينية خلال عقدى السبعينيات والثمانينيات والتى قادها رئيس أساقفة السلفادرو أوسكار أرنولفو روميرو الذى أطلق عليه فى ذلك الوقت «آية الله روميرو» نظرا لدوره فى قيادة الحركات الثورية فى أمريكا اللاتينية. وتمثل تجربة أمريكا نقيضا للحالة الأوروبية فى الفصل التام بين الدولة والكنيسة، ويبدو ذلك واضحا فى الفارق بينهم فيما يخص السياسات الأمريكية. أما أكثر ما يدفع بالمجتمع الأمريكى للتدين على عكس مثيله الأوروبى فهو طبيعة ظاهرة الهجرة. وتستقبل أمريكا أكثر من مليون مهاجر سنويا، يجىء على رأسهم مهاجرون من الدول النامية التى يلعب الدين دورا رئيسيا فى حياة أبنائها. ولا تسعى الكنائس الأوروبية لجذب أتباع جدد، وذلك على العكس مما تحاوله وتتنافس عليه الكنائس الأمريكية المختلفة التى تسعى إلى جذب ومساعدة أكثر من مليون مهاجر جديد سنويا. وتمثل الكنيسة مركزا مهما فى حياة المهاجرين الجدد للولايات المتحدة، فبالإضافة لما تقدمه من ممارسات روحية، تقوم الكثير من الكنائس بإنشاء فصول لتعليم المهاجرين الجدد اللغة الإنجليزية، وتوفير حياة اجتماعية للمهاجر ولعائلته، وهنا يأتى نفوذ الكنيسة فى صنع السياسات فى بلد قام على المهاجرين، حيث إن معظهم جاءوا عن طريق الكنيسة فى موجات الهجرة الأوروبية الأولى. وعبر رئيس المنتدى بيتر بيرجر ل«الشروق» عن استمرار ظاهرة انحسار العلمانية فى مختلف أقاليم العالم باستثناء أوروبا الغربية. ويرى بيرجر أن المجتمع الأمريكى هو أكثر المجتمعات المتقدمة المتجه بسرعة نحو المزيد من التدين الواضح، رغم علمانية النظام السياسى. ويرى خبراء كثيرون أن المدرسة الفكرية الأمريكية تناصر الآن ما يطلق عليه «عودة الرب»، بعدما كانت هى القوة الفكرية الرئيسية الداعمة لتبنى تشريعات علمانية خاصة فى ستينيات القرن الماضى فى الولاياتالمتحدة. ويعترف بيرجر بأن الأمريكيين «مازالوا متدينين»، إلا أن هناك اختلافا فى طبيعة مفهوم الدين فى الوقت الحاضر، فالدين الذى تحدث عنه الأنبياء والذى يدعو إلى رفض الظلم والثورة على الظالم، لم يعد موجودا، أما الموجود الآن، والكلام لبيرجر، خاصة فى الولاياتالمتحدة، فهو مفهوم دين جديد يتمثل فى تأسيس علاقة فردية بين الإنسان والمعانى الدينية، فالفرد المتدين ليس له مؤسسة أو مرجعية تحتكر الدين وتفرضه عليه. بل يختار هو ما يريد من المعروض من الأديان، مثلها مثل أى بضاعة استهلاكية. ودخول البعد الاستهلاكى للدين، زاد من عدد من يذهبون للكنائس، فالفرد يختار الدين الذى يعجبه والذى يتناسب مع وضعه الاجتماعى والاقتصادى والسياسى ويحقق له التوازن النفسى والروحى، وهو دين فى صورة حديثة يتناسب مع وصلت إليه المجتمعات الإنسانية من حداثة وتقدم. واتفق الكثير من الخبراء الذين شاركوا فى المنتدى أنه على الرغم من سيطرة ممارسات الإسلام الراديكالى المتطرف على عناوين الأخبار حول العالم، فى ظاهرة تبدو شديدة التحيز ضد الإسلام، فإن ذلك لا ينفى أن الإسلام كدين يلعب دورا إيجابيا متزايدا فى المجتمعات المسلمة، وتجمعات المسلمين فى أوروبا وأمريكا. كذلك تبدو ظاهرة إحياء الدين داخل المجتمعات المسيحية الأمريكية ملفتة أيضا لأى باحث جاد، كذلك تشهد دول مثل الصين وكوريا الجنوبية زيادة غير مسبوقة وكبيرة فى عدد المنتمين للمسيحية خلال السنوات الأخيرة الماضية. وتبقى مناطق مثل أمريكا اللاتينية وروسيا كحالات تظهر الدور المهم للكنيسة فى تطور مجتمعاتها، أو عدم تطورها، ديمقراطيا.