ربما يشهد الكونجرس نزاعا وربما يكون معدل البطالة مرتفعا والبنية التحية الأمريكية متداعية؛ غير أن الأمريكيين من جميع الأطياف السياسية يواسون أنفسهم بفكرة أنهم على الأقل يقودون العالم فى مجال التكنولوجيا العالية وسوف يظلون كذلك. وهى فكرة مرضية ومريحة. ولن تستطيع الصين التفوق على الولاياتالمتحدة لأنها ليست مبدعة بما يكفى. فهى تعيش فى ظل نظام استبدادى؛ فى حين أن الديمقراطية شرط أساسى للإبداع وفقا لهذا السيناريو المريح.
وعلى الرغم من أمريكا تمتلك حصة كبيرة من جميع الابتكارات التكنولوجية التى شكلت عالمنا المعاصر فإن الشواهد التاريخية العريضة محبطة بالنسبة لكل من يعتقد أن الحرية السياسية شرط أساسى للإبداع. بل إن تاريخ أمريكا نفسها يقوض فكرة أن «الحرية هى كل ما نحتاجه». فمع أن الحرية كانت من البداية محورية فى الثقافة السياسية للبلاد لم يكن الأمريكيون دائما قادة فى مجال التكنولوجيا. وقد وصلت أمريكا لسن الرشد حديثا جدا. وكما أوضح لى رالف جومورى، الرئيس السابق لقسم الأبحاث فى شركة أى بى إم، ظلت أمريكا حتى الثلاثينات من القرن الماضى ناقلا لتكنولوجيات الدول الأخرى، وهو دور مشابه لدور اليابان وغيرها من بلدان شرق آسيا فى أزمنة أحدث.
●●●
فكيف نفسر الصعود الأمريكى المفاجئ فى منتصف القرن العشرين إلى المجد التكنولوجى؟ لا يعود الفضل إلى الحرية ولكن إلى أمر أقل شأنا: المال! فمع الحرب العالمية الثانية انضمت حكومة الولاياتالمتحدة إلى الشركات فى الإنفاق على البحث والتطوير ثم جاءت الحرب الباردة وإطلاق السوفييت سبوتنيك فى عام 1957، وهو ما أتاح مزيدا من الزخم للأبحاث الممولة حكوميا، ومن بين نتائج ذلك إنشاء وكالة أبحاث الدفاع المتقدمة الأمريكية (داربا) التى ساعدت فى تطوير الإنترنت.
وعلى مدى التاريخ، تصل البلدان الغنية إلى المستقبل أولا؛ حيث تستطيع شركاتها إمداد المصلحين وأصحاب الرؤى بالمواد والأدوات والمعارف المتقدمة. ويثير هذا سؤالا تاريخيا: هل تتفوق الصين على الولاياتالمتحدة كأكثر دول العالم ابتكارا؟ وتزداد أهمية السؤال لأن العديد من الخبراء يرون أن روح الابتكار الأمريكية تتراجع بالفعل. وكما ذكر لى بيتر تايل المستثمر فى وادى السليكون، صارت قاعدة الإبداع الأمريكى فى العود القديمة ضيقة إلى حد كبير. وقال: «لقد اقتصرت بشكل عام على تكنولوجيا المعلومات والخدمات المالية»، وأضاف: «وعلى العكس، لم نكد نحقق تقدما اليوم فى مجال النقل عما كنا عليه قبل أربعين عاما. وينطبق نفس الشىء على علاج السرطان.
ويشير روب أتكينسون، رئيس مؤسسة تكنولوجيا المعلومات والابتكارات، مقرها واشنطن، إلى أن الصين تزيد من إنفاقها على الأبحاث؛ ويضيف: «لدى الصينيين القدرة على تخصيص الكثير من الموارد على هذا الأمر وسوف يؤتى بعضها الثمار».
ووفقا لمنظمة التعاون الاقتصادى والتنمية ارتفع إنفاق الصين من الناتج المحلى الإجمالى على البحوث من 0.9 فى المئة عام 2000 إلى 1.7 فى المئة فى عام 2009. وفى الوقت نفسه زاد إجمالى عدد الباحثين الصينيين فى مجال البحوث والتطوير أكثر من الضعف خلال الفترة 2000 إلى 2007. وخلال نفس الفترة ارتفع عدد الباحثين فى مجال البحث والتطوير فى الولاياتالمتحدة بأقل من 10 فى المائة.
ويتوقع معهد الباتيل ومقره أوهايو أن الصين ربما تتفوق على الولاياتالمتحدة فى الإنفاق على مجال البحوث والتطوير بحلول عام 2023.
●●●
وفى الوقت نفسه، تبدو مؤشرات تقديم براءات الاختراع الدولية مشئومة على نحو متزايد. ووفقا لبيانات جمعتها المنظمة العالمية للملكية الفكرية كانت شركة الاتصالات الصينية «ZTE» أكثر جهة تقدمت للحصول على براءات الاختراع الدولية فى العالم عام 2011. وقد ارتفعت إيداعاتها بصورة مذهلة لتصل إلى خمسة أضعاف إيداعاتها عام 2009. انتقلت شركة صينية أخرى «هواوي» إلى المركز الثالث فى جدول المنظمة لعام 2011. وكانت شركة أمريكية واحدة ضمن أفضل عشر شركات، وهى شركة كوالكوم. وهذا هو الأمر الأكثر إثارة للقلق لأن قانون البراءات فى الولاياتالمتحدة يشهد ضعفا كبيرا. وقد زاد الكونجرس من صعوبة حماية حقوق الملكية الفكرية للمخترعين الأمريكيين الصغار من التعدى والسرقة.
ويؤكد بات شويت، مؤلف كتاب «الملكية الساخنة»، وهو كتاب عن سرقة الملكية الفكرية، أنه إذا كان نظام براءات الاختراع الجديدة موجودا عندما كانت شركات أبل ومايكروسوفت فى بدايتها ربما لم تكن لتتجاوز المستويات الأولى. وربما كانت براءات الاختراع الخاصة به قد تم التعدى عليها بسرعة من قبل الشركات الكبيرة المفترسة، وربما كانت اضطرت إلى تقديم تنازلات تقاسم تكنولوجيتها مع هؤلاء الأغنياء قساة القلوب؛ بدلا من الدخول فى معارك قضائية غير متكافئة ضد الخصوم.
وهناك أمر آخر يثير القلق وهو أن الشركات الأمريكية تنقل عمليات البحوث والتطوير إلى خارج البلاد. ووفقا لمؤسسة العلوم الوطنية تصل نسبة الموظفين المقيمين بالخارج فى مجال البحوث والتطوير نحو 27 فى المائة من جميع موظفى الشركات الأمريكية متعددة الجنسيات فى عام 2009 ارتفاعا من 16 فى المائة عام 2004.
يبدو أن الصين تستفيد من هذا الاتجاه. حيث تطور كل من شركتى إنتل وأبلايد ماتيريالز مراكز أبحاث كبرى هناك. ووفقا لبول ميشال، وهو قاضى استئناف فيدرالى سابق متخصص فى قانون براءات الاختراع، فإن هذه العمليات ستكون أكبر من أى نشاط تمتلكه أى من الشركتين فى الولاياتالمتحدة. ويضيف: «معظم الموظفين فى هذه المعامل سوف يكونون صينيين، ولا شك أن العديد من وظائف التصنيع الناتجة عن هذه الأبحاث سيكون موجودا فى الصين».
●●●
لكن إذا كانت ثقافة شرق آسيا لا تمثل عائقا خطيرا أمام الإبداع التكنولوجى، ومن المفترض أن لا شركة إنتل ولا أبلايد ماتيريالز ترى ذلك لما يتهم علماء ومهندسو شرق آسيا بشكل عام بأنهم مقصرون؟ يرجع جزء من ذلك إلى أن هناك أنواعا مختلفة من الإبداع التكنولوجى. ويوضح رالف جومورى أن تحويل هذه الابتكارات إلى منتجات هو ما يفيد من الناحية الاقتصادية فى حال أن تقديم الابتكارات المهمة يصنع عناوين الأخبار ويؤدى إلى الفوز بجائزة نوبل.
وتميل شركات شرق آسيا إلى التركيز على هذه المهمة الثانية، وعلى الرغم من أن تفاصيل «التحسين المستمر» فى تكنولوجيا الإنتاج لديها نادرا ما تظهر فى الإعلام كان نجاحها وراء الثراء الهائل فى المنطقة خلال العقود الستة الماضية.
ويرى جيمس ويلدسون، وهو أستاذ بريطانى درس الإبداع التكنولوجى الصينى، أن أجندة الإبداع العملى الصينى تتوازى مع وأجندتها الرياضية. وتحتل الصين المركز الحادى عشر بالنسبة لعدد الميداليات الذهبية التى حصلت عليها فى دورة الألعاب الأوليمبية فى سول عام 1988. ولكنها تصدرت القائمة بعد مرور عشرين عاما.
وقال: «إذا كان هذا ما تستطيع الصين تحقيقه فى الرياضة؛ فبأى سرعة سوف تصبح زعيمة فى مجال العلم والإبداع؟»
مؤلف كتاب «بين فكى التنين: مصير أمريكا فى حقبة الهيمنة الصينية المقبلة»