ترقد مريضة فى غرفة الانعاش. يبدو عليها الوهن والهوان بعد صراع طويل مع المرض. سنوات هى، بل عقود، تلك التى أمضتها فى الفراش تصارع الموت. تأبى أن تموت. ولكنها لا تتعافى. تعيش فى ألم دائم يتفاقم. يلتف حولها أبناؤها. معظمهم أطباء. كعادة الأسر المصرية، كانت تلك رغبة الأم التى انصاع لها الأبناء. أكبر أبنائها توأم متماثل. أولهما يبدو متماسكاً. يذهب البعض أن إيمانه وورعه هما السبب. يقول البعض أن كثرة ما تعرض له فى الحياة من مصاعب، بما فى ذلك الفترة التى قضاها سجيناً، قد شدت عوده وجعلته صلباً كالفولاذ، حتى ليبدو للكثيرين فظاً عديم القلب. يتودد لأمه، ولكنها تشيح بوجهها عنه مرة بعد مرة. تعرف أنها لا تعنيه فى شىء، وأن جل ما يشغله هو نصيبه وأبناؤه من ميراثها. سمعته بنفسها خلسة وهو يلعنها. «تباً لها. لماذا أنجبت كل هؤلاء الأبناء؟ كم من علاقة غير شرعية أقامتها تلك العاهرة؟ لماذا لم تكتف به ابناً وحيداً؟» حتى يرثها وحده.
شقيقه التوأم ليس أفضل حالاً. تشيح أمه بوجهها عنه كلما فتحت عينيها. لا تريده بالقرب منها. قضت فى كنفه أعواماً طوالا. أسلمت جسدها له ليعالجها مما أصابها من مرض عضال. بدلاً من أن تتعافى، تدهورت حالتها عاماً بعد عام. رفض باستماتة أن يجيبها لطلبها بأن يستشير أحداً من أخوته الأطباء. كان رفضه قاطعاً بل وعنيفاً لمجرد فكرة أن يقترب منها طبيب آخر، ولو أخوه. بان المستور. غريباً ذلك التلازم بين انتفاخ وجنتيه وشحوب وجه أمه. ملفتاً ذلك التزامن بين ازدياد وزنه وظهور علامات الثراء والبحبوحة عليه، وبين نحول جسد أمه.
•••
زمرة من الاخوة تقف خارج الزجاج المطل على غرفة الانعاش. كل منهم يدعى أن لديه ولديه وحده الدواء لدائها. برغم ذلك لا يتقدم أحدهم لتركيبه. اكتفوا بتجاذب أطراف الحديث. حديثهم لا ينتهى. أصبح مكرراً وممجوجاً، لا ينصت اليه غيرهم. انصرف عنهم الغالبية العظمى من إخوتهم. اختاروا كنبة واسعة. منهم الكبير، ومنهم الصغير. منهم الغنى ومنهم الفقير. جميعهم أسلموا أمرهم لله، وارتضوا قضاءه. الموت علينا حق.
أصغر الأبناء على غير حال. تبدو عليهم علامات القلق الشديد. يريدون لأمهم أن تعيش. ليس لمجرد العيش. يريدون لها أن تتعافى وأن تستعيد نضارتها. لم يشبعوا منها ومن حنانها بعد. جف ريقهم من مطالبة إخوتهم الأكبر باستحضار الدواء أو تركيبه. ضجوا بإخوتهم وقرروا أن يخطفوا أمهم إلى المستشفى. أجروا لها عملية خطيرة. خرجت الأم من غرفة العمليات ضعيفة، ولكن ابتسامة عريضة تملأ وجهها. نجحت العملية. المهم الان هو استمرار العلاج الكيميائى لانتزاع الورم بالكامل. لا توجد أنصاف حلو. موقنون بأن لداء أمهم دواء. كم من صديق لهم مرضت أمه بذات المرض، وعانت نفس الأعراض ونفس الآلام، ولكنها تعافت. يزداد قلقهم. يمر الوقت دون حضور الطبيب بالدواء. البعض منهم طبيب تحت التمرين أو دارس للطب، ولكنه خائف من مجرد دخول غرفة الأم أو محاولة علاجها. خائف أن يقتلها. لا يجد غير أن يجرى إلى خارج المستشفى. يحطم زجاجها ونوافذ السيارات خارجها. يتعدى بالضرب على كل من تقع يده عليه. يصرخ بأعلى صوته.