فى هذه الأيام المباركة، أيام «ثورة اللوتس»، تمر أيضا ذكرى عزيزة، لكنها من الماضى الحضارى المصرى العريق. ففى نهاية الشهر الخامس من السنة المصرية (30 طوبة) يخرج المصريون فى موكب احتفالى دينى شعبى بحرى للربة «سيشات»، وهى ربة مؤرخة، سيدة الكتابة، والحساب، والعمارة، وحفظ السجلات والمقاييس، والتى يمكن التعرف عليها من صورها بالثوب الضيق الذى ترتديه مصنوعا من جلد النمر، بالإضافة إلى النجمة أو الزهرة بسبع بتلات فوق رأسها، وهى زوجة أو شريكة «تحوت» سيد الكتابة، حيث يترجم اسمها من المصرية القديمة إلى «سيدة الكتابة».
تحسب «سيشات» عمر كل ملك من ملوك مصر بأن تضع فى مقابل كل عام من حياته علامة على (الجريد) فرع النخيل الذى تحمله دائما.
وقد ورد ذكر ذلك العيد ضمن قوائم أعياد الملك تحتمس الثالث فى معبد الربة «موت» بالكرنك، حسب ترجمة عالم المصريات الألمانى «شون سيجفريد».
سيشات المؤرخة
إن اسم «سيشات» المختصة بكتابة تاريخ الملوك على سجلها الأزلى، يمكن أن يكون ملهما لمسابقة سنوية للكتابات التاريخية، ودراسات فى أعمال المؤرخين.
سيشات «المرأة الكاتبة»
كما أن صفة «سيشات» ك«سيدة الكتابة» جديرة بجائزة سنوية للكتابات النسوية، تنصف المرأة المفكرة الباحثة الكاتبة فى مجتمعات الألفية الثالثة، أولئك اللاتى مازلن يطالبن ببعض مما تمتعت به جداتهن المصريات لآلاف السنين فى زمن «سيشات» و«شإيزيس» و«رع نينت» و«هاتور» و«إعح حتب» و«أحمس نفرتاري».
إن«أبكار السقاف» و«عائشة عبدالرحمن» و«نوال السعداوي» وغيرهن من السائرات على درب «سيدة الكتابة» لقادرات على إثارة دهشة وإمتاع القارئ بشكل يفوق الوصف والخيال.
سيشات «حافظة السجلات»
كذلك ربما تكون «سيشات» بصفتها حافظة السجلات والمقاييس سببا فى بعض الإنصاف للمعذبين فى الأرض (الموظفين)، باحتفالية تكريم، خاصة فى تلك المهن الوظيفية البائسة، حيث لا يشعر بهم أحد فى بدرومات الأراشيف، تحت البنايات وفى الأركان المظلمة المجهولة، بين ركام الملفات والدفاتر وما علق بهم من طبقات الأتربة.
إن طائفة كبيرة العدد ، عظيمة الأثر فى نظام المجتمع، بحاجة لنظرة أو لفتة إنسانية، فى انتظار لمن يوجه إليهم رسالة اهتمام بهم وبغيرهم من الطوائف والفئات المهمشة.
قد يوصل مهرجان كهذا رسالة لجميع العاملين المنتجين مفادها:
استمر فى عملك ومثابرتك، فلن يضيع جهدك أبدا، فهناك مقابل لتعبك فى الأرض كما أن هناك من ينظر إليك فى السماء!
سيشات «ربة العمارة»
كانت «سيشات» بصفتها ربة العمارة هى التى تشرف بحضور الملك على طقوس وضع حجر الأساس لكل مبنى، وكذلك «شد الحبل» لتحديد اتجاهات المعابد والأهرامات الجديدة مستعينة بمواقع النجوم.
المنطق الواثق بعظمة الأصل ورحابة المستقبل ، يرفض ألا يكرم رواد العمارة فى العالم، صانعو الأهرامات والمسلات، والتيجان والمشربيات، إلا بالتكريم اللائق لمكانتهم، لنجنى الثمار المستحقة والعوائد المناسبة، وذلك من الحرص على تكريم وتحفيز الباحثين والمجتهدين الجدد فى بحور عمارة العالم.
فلنحتفل برموزنا وأعيادنا القديمة والحديثة، حيث الأعياد هى ذاكرة للمسرات والإنجازات داعمة للقيم الإيجابية، ربما تَمَيز الإنسان بهذه الذاكرة عن باقى الكائنات الحية، فليس الإنسان حيوانا ناطقا فقط، كما هو التعريف الشائع، بل هو أيضا كائنٌ يتذكر، فرديا وجماعيا، ويحتفل برسالات الإخلاص والحب والخير والجمال، فكأن الأعياد تجعل الإنسان موصولا عبر الأجيال بالمعانى والأحاسيس الجميلة.