تضمنت القوائم المنقوشة على حجر باليرمو، اسم أول الملوك، «حورس»، وكذلك اسم «سبا سركت»، الذى أعاد للبلاد هيبتها وقوتها بعد فترة من الصراعات، فهو صاحب المحاولة التوحيدية الثانية، كما ذكرت اسم الملك الشهير «مينا» المعروف بموحد القطرين، بينما هو فى الحقيقة أعاد البلاد إلى وحدتها وقوتها وقام بتأديب مثيرى الشغب والقلاقل من الغرباء المتسللين وسط أهل الشمال، وصور ذلك فى صلايته المعروفة بإسم «لوحة نارمر». جاء ذكر احتفالات الملوك المصريين بعيد توحيد (القطرين) الأرضين، تحت اسم «سما-تَاوى»، مُدمجا مع احتفالات الجلوس على العرش، لبعض الملوك، فى الحادى والعشرين من شهر بابه، وذلك لثلاث مرات متفرقة، بحيث يصبح الثابت المحقق هو المناسبة «توحيد الأرضين»، وموعدها المُرجح 21 بابه، بينما تحديد إسم صاحب ذلك الإنجاز ليس بنفس الدرجة من الحسم، عكس الشائع بين العامة والخاصة.
لم يقترن ذكر توحيد القطرين بالملك «مينا» وحده، بل ورد منسوبا ضمن الأعمال الجليلة لعدد من الملوك العظام، بداية من «حورس»، أول الملوك، مرورا ب «سبا سركت»، وحتى «أحمس» و«أمنحتب الأول» و«تحتمس الثالث»، إذ جاء وصف الأخير فى نقوش معبد«موت» بموحد القطرين، وذلك بمناسبة إحتفاله ب«حِب-تَاوى»، أى عيد الأرضين.
يبدو أن أجدادنا من كُتاب قدماء المصريين قد تعاملوا من خلال نقوشهم مع «توحيد الأرضين»، باعتباره عيدا يستلزم الاحتفال كلما انتصر الشعب المصرى، داخليا أو خارجيا.
توحيد القطرين، هو الاسم الشائع، أو الترجمة الشائعة للاسم المكتوب بالحروف الهيروغليفية «سما-تَاوى»، بينما الترجمة الحرفية هى «توحيد الأرضين».
هو إذن، عيد تمام وحدة أرض مصر.
عيد التئام الشمال والجنوب فى دولة واحدة، محددة المعالم، متجانسة الملامح والمشتركات.
عيد ذكرى اكتمال ونضوج الشخصية القومية المصرية.
وهو العيد الذى يؤكد وحدة المصريين من آلاف السنين.
كما أنه عيد تأسيس أول دولة مركزية فى التاريخ.
فى قوائم أعياد حورس بمعبد إدفو، المترجمة بواسطة عالم المصريات الألمانى «شوت سيجفريد»، نرى عيدا مخصصا لذكرى إبرام السلام بين «حورس» و«ست»، تكرر الاحتفال به أيضا مدمجا مع عيد توحيد الأرضين «ضُم تَاوى».
تتلخص طقوس العيد فى مسرحية رمزية، تعيد سرد أحداث الصراع على وراثة حكم مصر بين «حورس» و«ست».
ينتهى العرض بصلح اعتبارى بين الخصمين، يتم بموجبه «تقسيم السلطة» بين الطرفين المتنازعين، فيتولى «حورس» تاجا موحدا يجمع بين تصميمى تاج الشمال الأحمر وتاج الجنوب الأبيض، ليحكم الأرض الزراعية «كيميت» ومواطنيها المصريين، بينما يرعى عمه «ست» شئون الصحراء «دشرت» والوافدين الأجانب.
يُظهر شراح نصوص حجر باليرمو (محسن لطفى السيد) أن الاحتفال المسرحى كان يتكون من ثلاثة مشاهد:
1- المشهد الأول: ظهور ملك الأرضين «تَاوى»: وفيها يصعد الملك نحو مبنى مرتفع يضم مقصورتين، يجلس مرة فى كل مقصورة منهما، حيث يمثل جلوسه على كل عرش، يرتدى فى المرة الأولى التاج الأبيض ويظهر كملك للجنوب، وفى الثانية يرتدى التاج الاحمر ويظهر كملك للشمال، ثم يوضع كرسى العرش أمام المقصورتين ويتوجه الملك للجلوس عليه، حيث تتقدم الأم المقدسة (الملكة الأم) فى هيئة «إيزيس» وتضع تاج القطرين على رأس الملك وسط الهتاف والتأييد.
2- المشهد الثانى: اتحاد أرباب الشمال والجنوب: وهو طقس يتم فى حضور الملك، يؤديه فريقان من الكهنة وهم مرتدون لأقنعة ترمز ل «حورس» (الصقر) و«ست» (الحمار الوحشى)، يقدمون عرضا جماعيا، حيث ينتهى العرض بأن يتقدم كل منهما للآخر برمزه النباتى، حتى يتقابل الغصنان، فيتم ربط نباتى الشمال والجنوب (البردى واللوتس) حول عمود «الجِد» كرمز للتوحيد.
3-المشهد الثالث: يحمل الملك نموذجا صغيرا من عمود «الجِد»، طائفا حول الحائط (جدار يرمز لعاصمة التوحيد)، وفيه يسعى الملك حول الجدار معلنا إخلاصه ورعايته وإحاطته بكل شبر من الدولة الموحدة، وتلك الطقوس تبدو جذورا تاريخية لإجراءات: «حلف اليمين»!
يذكر أدولف إرمان فى كتابه «مصر والحياة المصرية فى العصور القديمة» طقس آخر مرتبط بالعيدين المدمجين غالبا «الجلوس على العرش» و«توحيد الأرضين»، وهو «رفع عمود ال جد» الذى يتم صباح اليوم التالى، بطقس شبيه لما نفعله الآن من نحر الخراف والعجول صباح عيد الأضحى، حيث يشهد الملك بنفسه تقديم «ثور» قربان لأوزيريس، وبمجرد تمام الذبح يتجه مع حاشيته لرفع عمود الجد وسط ميدان حاشد بالجماهير التى تبدأ فى التصفيق والصياح ورفع الشخاليل والصلاصل أثناء عملية رفع العمود.
الاحتفال ب «توحيد القطرين»، ذكرى انتقال الإنسان من الفوضى إلى النظام، ينبهنا إلى أهمية تلك المناسبات فى تذكير المصريين بوحدتهم ومصيرهم المشترك، خاصة بعد الصراعات التى أعقبت ثورة اللوتس (25 يناير)!
جدير بالذكر أنه تحت اسم: «الكل فى واحد»، تم تنفيذ هذه الاحتفالية لأول مرة بواسطة إيهاب قاسم وعدد من النشطاء المصريين، حيث أقاموا الاحتفالية بمسرح «الجنينة» بحديقةالأزهر، يوم 21 بابه 6253، الموافق 1نوفمبر2011، قدم لها الباحث بسّام الشماع، وأحيتها فرقة «إسكندريللا» بحضور كثيف من الشباب تجاوز العدد المحدد للمسرح.
هذا العام يتكرر الاحتفال بعيد توحيد القطرين، بوقفة أمام الأهرامات، وصورة جماعية لممثلى التيارات والفئات المختلفة، تحت شعار: «إيد واحدة من عهد مينا»، وسيكون ذلك بمشيئة الله، يوم الأربعاء 21 بابة 6254، الموافق 31 أكتوبر 2012.