منذ اللحظة التى خرج فيها مصطلح «غزوة الصناديق»، كان من الواضح أن الثورة تذهب بنفسها إلى فخ «ديمقراطية الصندوق»، وهو الفخ الذى وقع فيه الجميع، لأنه لو كانت الأمور فى مصر يمكن حسمها بالصناديق، لما قامت ثورة فى البلاد، وكان علينا الانتظار لإصلاح ما أفسدته الصناديق السابقة، وما كنا بحاجة لدفع كل هذه التكاليف الباهظة من أجل الاحتكام للصندوق، والمؤلم أن الحديث والحوار والنقاش حول مطالب الثورة تراجع بصورة مذهلة لمصلحة مطالب الصندوق وضمانات الصندوق واختيار الصندوق، بل وشرعية الصندوق، فتبددت تماما أى شرعية للثورة والثوار. منذ مارس 2011، ذهب المصريون للصناديق خمس مرات (استفتاءان، وانتخابات برلمان، وشورى، ورئاسة) ومع كل مرة ذهبوا فيها للصناديق زاد انقسامهم، والتهب استقطابهم، وانكسرت ثورتهم، وضاعت مطالبها وسط زحام يبدو أنه ديمقراطى، وصحب كل ذلك قدرا لا بأس به من العنف يرتبط دائما بالعملية الانتخابية، سواء قبلها أو فى أثنائها، أو فى أعقابها، وفى كل مرة وفى عقب كل انتخابات أو استفتاء، تخسر الثورة مجددا، فبعد انتخابات مجلس الشعب أصبحت الشرعية للبرلمان، كما كان يهتف الإخوان، وسقطت شرعية الميدان الذى اندلعت منه الثورة وجاءت بهؤلاء للجلوس تحت القبة، ثم ها هى الثورة ستخسر مجددا بعد استفتاء الدستور بتقنين تنظيم التظاهر (وهو تعبير مهذب لوأدها) عبر مجلس الشورى، الذى صار تشريعيا بين ليلة وضحاها.
وها نحن نعيش مجددا، مع الدعوة السادسة للذهاب للصناديق، والتى ترتفع فيها بكل جرأة أصوات اغتيال الثورة ومطالبها، تحت دعوى أن «الشعب عايز كده» على طريقة المدافعين عن الفن الهابط بقانون شهير اسمه «الجمهور عايز كده»، وهى دعاوى ستنهى تماما ما تبقى من ثورة يناير.
لمن لا يعرف، يحدث الآن فى مصر نشاط هائل يستهدف جمهور الناخبين، بالزيت والسكر والخبز والبوتاجاز، وكل الأسلحة التى حرمتها الديمقراطية فى العمليات الانتخابية، دون أن تكون الثورة وأهدافها ومطالبها وشعاراتها حاضرة فى جذب أو لفت انتباه الناخبين، فقط نريد صوتك، وهذا ثمنه، واتركنا نفعل ما نريد أن نفعله.. من يريد الوصول إلى البرلمان عليه أن يعرف جيدا أن الثورة التى اندلعت فى البلاد قبل عامين لم تندلع من أجل الانتخابات والأصوات والصناديق، بل اندلعت من أجل الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، ومن لديه أجندة أخرى نرجو منه الابتعاد عن الصناديق ، لأن الجماهير هذه المرة، وإن أعطت أصواتها لمن أعطوهم الزيت أو السكر، أو طلوا عليهم كثيرا من شاشات التليفزيون وأمطروهم بحديث العدالة الاجتماعية، لن تصمت على أى تأخير جديد فى تحقيق مطالبها وحاجاتها الضرورية، وسوف تكون الثورة هذه المرة على من اعتقدوا أنهم ثاروا على نظام فاسد، فليس الفساد فقط هو السرقة والرشوة ونهب المال العام، لكنه أيضا اهمال الجماهير واغتيال لحظات تحقيق احلامهم، فهؤلاء لن يسمحوا ابدا بسقوط ثورتهم فى الصناديق.