فى محاضرة له فى الكلية الأوروبية للدراسات العليا، فى سنة 2007، تحدث الفيلسوف الفرنسى ألان باديو -المولود فى الرباط بالمناسبة- عن جدلية العلاقة بين الديمقراطية والفلسفة والسياسة. كانت إحدى الخلاصات التى أدهشتنى فى محاضرة باديو هى أننا (مضطرون فى ما يبدو للتسليم بأن ثمن العدل تدفعه الحرية). هذا التناقض العميق بين مقولتى الحرية والعدالة -ويا للمفارقة إذن التى يحملها اسم حزب الإخوان!- يظهر جليا، ومعكوسا، فى الأحوال المصرية منذ استفتاء مارس المشؤوم، وصولا إلى انتخابات البرلمان، مرورا بكل محطة جرى فيها استدعاء واستنفار ما أطلق عليه الأغلبية الصامتة بدعوى الممارسة الديمقراطية، هذه الديمقراطية التى روجت لنفسها وصادرت على حق الأغلبية فى الصمت حين وصفتها ب(حزب الكنبة) بما تحمله كلمة (حزب) من جر رجل إلى حلبة اللعب السياسى. أكثر ما يزعجنى فى فوضى الخطابات السياسية المتداولة، وما أكثرها، هو أنها جميعا تعلن إيمانها بالديمقراطية ودعوتها إليها، بينما تَصِم خصومها بأنهم خائنون للديمقراطية قافزون فوقها متربصون بها، إلخ.. إلخ.. والذى يزعجنى تحديدا هو تقديم الديمقراطية باعتبارها قيمة لا أداة، غاية وليست وسيلة. إننا نختزل الديمقراطية إلى أسوأ ما فيها أى إلى (اللاشىء)، ليس أكثر من إجابة لا تجيب، هى تحديدا: (كما تريدون/ زى ما الناس عايزة/ على كيفكم/...)، مهما تفنن البعض فى تزويق الفراغ بعبارات محسنة من مثل: (إرادة الشعب/ صوت الجماهير/ الشعب ينتخب/...). لا ينتبه المتسربلون بالديمقراطية إلى أنها عادة ما تمتزج فى الفكر السياسى بفلسفة أكبر منها: الديمقراطية الليبرالية، الديمقراطية الاشتراكية، ديمقراطية السوق، الديمقراطية الشعبية، وغير ذلك، مما يعنى نظاما أشمل ومحدد الأهداف يعتمد النهج الديمقراطى وسيلة لتحقيقه. التعمية على طبيعة هذا النظام الأشمل، والفلسفة الأكبر، والاكتفاء بالحديث صباح مساء عن الديمقراطية كغاية أسمى، أكاد أشم فيه رائحة الوقوع فى الفخ الفوكويامى، فخ نهاية التاريخ وانتهاء صراع الأيديولوجيات إلى حسم قاطع لصالح الرأسمالية، للدرجة التى لا نحتاج معها حتى إلى مجرد ذكر اسمها. وهكذا تصبح الديمقراطية دينا، والصندوق طقسا، والنخبة قبيلة صغيرة مرشحة للكفر. وكلما اعترضنا أو امتعضنا، أو أعربنا عن استيائنا مما تقودنا إليه التجربة، قيل لنا بفروغ صبر: أليست هذه هى الديمقراطية التى فلقتم بها أدمغتنا؟! فى المقابل يواجه الغرب حركات الاحتجاج التى ترفع فى ميادينه لافتات (التحرير) مستلهمة ثورة يناير باستغراب ساخر: «إن ثوار يناير فى ميدان التحرير يطالبون بما تمتلكونه أنتم فعلا!». إن كان ثمة من درس نتعلمه نحن منهم بأريحية تشبه احتفاءهم بنا، فهو أن الديمقراطية لا تكفى حتى فى المجتمعات الأكثر تأهلا لها. وقبل أن أُتهم وحدى بأننى قد جئت شيئا إمرا! أهيب بقارئى أن يستطيع معى صبرا. فنقد الديمقراطية ليس كاتب هذه السطور فيه بدعا. كما أننى -فقط- أحاول التأكيد أن الديمقراطية وسيلة بين وسائل، وتجربة محكومة بشروط. فى الفقرة 203 من كتاب نيتشه الشهير (ما وراء الخير والشر)، يعتبر الفيلسوف الألمانى الكبير أن «الحركة الديمقراطية ليست صورة من صور انحطاط التنظيم السياسى فحسب، بل صورة لانحطاط الإنسان ذاته». وقبل أن يسرع البعض لهز الرؤوس وغمز العيون وكأنهم يقولون: (آه، نيتشه. طبعا!)، أسارع أنا لأقول لهم إن الموقف السلبى إزاء الديمقراطية ممتد من أفلاطون إلى أرسطو إلى هيجل مرورا بنيتشه إلى فتجنشتاين وهيدجر ولغاية جيل دولوز وألان باديو! القاعدة الديمقراطية (شخص واحد= صوت واحد)، هى فى رأيى صياغة خائنة للأساس الفكرى للديمقراطية نفسها. منذ أفلاطون نعترف بأن العقول البشرية متساوية، لكننا نفرق بين تساوى العقول وتفاوت الآراء تبعا لما تحصّل لأصحابها من معرفة ومعلومات وخبرات. لعل الصيغة الأدق للديمقراطية تكون (شخص واحد= الحق فى صوت واحد)، أما تحصيل هذا الحق فلا بد أن يكون مرتبطا بجدارة ما. مئات الألوف من الأصوات الباطلة فى الانتخابات المصرية، وملايين الأصوات التى قايضت نفسها باللحم والزيت، والملايين الأكثر التى اعتقدت أن الله بين المرشحين، كل هؤلاء يجعلون إعادة النظر فى الشكل الديمقراطى الذى نتبناه أو يُفرض علينا أمرا واجبا. بل إن هؤلاء الذين دُعوا فلبوا إنما هم يقتلون الثورة التى قامت من أجلهم. كيف يمكن ممارسة الديمقراطية فى ظل اغتيال أسس الفرز السياسى والاجتماعى المتمثلة فى الإجابة عن السؤال العقلانى التالى: أين تضعنى مصلحتى؟ إن دخول العنصر الغيبى أفسد المعادلة الديمقراطية فوق ما هى فاسدة، إذ إن الناخب المصرى لا يبحث عن مصلحته فى (هذا العالم) فحسب، بل إن حسابات مصلحته (الأخروية) أصبحت مثقال ذرة لا يرجح شىء عليه. أى اختيار ممكن بين الحور العين على ضفاف نهر العسل، وبين جناح البعوضة؟ لا بأس من لفت النظر إلى أنه حتى فى الديمقراطية الكلاسيكية التى أنتقدها هنا، تأخذ الخطابة موقعا وأهمية كبرى باعتبارها وسيلة توجه إلى الجماهير بخطاب غرضه الإقناع. فما الخطابات الأصيلة التى أكملت الشكل الديمقراطى وصنعت له محتوى؟ صحيح أن شباب الثورة لم ينجح إلى الآن فى تقديم خطاب متماسك مما ساهم فى انفضاض الكثيرين من حولهم، لكنه صحيح أيضا أن التيارات الرجعية لم تقدم خطابا من الأصل، بل باعت لنا بضاعتنا المسماة بالهُوية، فاشترينا وكأننا نشترى الترومّاى! إن الحد المنطقى الرياضى الأقصى للديمقراطية هو (الإجماع)، بينما حدها المنطقى الأدنى هو (الأغلبية). وكلاهما -الأغلبية وحتى الإجماع- لا يساويان بالضرورة (الحقيقة). وللحقيقة اسم فلسفى وحيد فى مجال السياسة هو (العدل). وفى زمن الثورة فإن أقصر طريق للعدل لا يمر عادة بالديمقراطية فى مساراته الأولى. كثير من أصوات الثورة لا يدرك هذا. فبينما يطالبون -محقين- على الشاشات والصفحات والمواقع بأن يكون للثورة والثائرين وحدهم حق تقرير مصير البلاد، إلى درجة أمر الآخرين بالخرس، نراهم يتباكون على الديمقراطية ويستعيدون صورة جمال عبد الناصر وقراراته فى 1954 باعتباره المجرم الأول الذى امتد سلطانه من القبر إلى المجلس العسكرى! أىُّ خلط وأىُّ تخبط! لقد فعل ناصر الزعيم الثورى (الشاب) تماما ما نحن عاجزون عنه الآن: كانت لديه ثورة وبرنامج للثورة ولم تكن الديمقراطية فى لحظته تلك لتفعل شيئا سوى أن تعرقله. الشىء الآخر الذى أراه مجالا للتخبط والخلط واللغط، هو دعوة الثوريين ومؤيدى الثورة، دعوتهم الأغلبية الصامتة للكلام والحركة، بل ومعايرة هذه الأغلبية بصمتها وبعجزها وبكنبتها. هذا دون أن يقدم هؤلاء للأغلبية برنامجا يتخطى الأداء الفوضوى للثورة، من رفض المؤسسات ونزعة قتل الأب والتحزب لمفهوم غائم هو (الجيل) واختصار الحركة فى حروب الشوارع. يرفع الثوريون شعارا طاغيا هو (حق الشهداء)، بينما يريد الناس كلاما عن (حقوق الأحياء). وحين تستغل الدولة المتعجلة المحافظة المحرومة من الخيال الفرصة فتتيح مناسبة ديمقراطية لسماع الصوت الصامت، تكون النتيجة أقرب إلى الكارثة. أخى المواطن: إذا كنت من الأغلبية الصامتة، فإننى أحترم صمتك وأتمنى عليك أن تعتصم به ما دمت لا تعرف. فالصمت أشرف من لعب دور الكومبارس المتكلم، خصوصا إذا كانت جملتك فى الفيلم، المعدة سلفا، سابقة التجهيز والترصد، هى، فقط: عدس.