ظلت مصر منذ الفتح الإسلامى ولاية تابعة لدول الخلافة «الراشدة والأموية والعباسية»، وفى عهد الأخيرة جاءت ولاية أحمد بن طولون سنة «254ه- 868م» فعمل ابن طولون على الاستقلال بمصر عن دولة الخلافة ببغداد، واستمر آل طولون فى الحكم حتى تولى «هارون بن خمارويه» حكم مصر، فوقع خلاف بينه وبين الخليفة العباسى «المكتفى بالله على264-295ه»، فأرسل المكتفى جيشا بقيادة محمد بن سليمان- الذى بدأ كاتبا للؤلؤ خادم أحمد بن طولون. وانتهى به الحال أن أصبح قائدا من قادة جيش الخليفة- ومعه أكثر من عشرة آلاف مقاتل لحرب هارون، والتقى الجيشان وانهزم هارون واستولى ابن سليمان على تنيس ودمياط، وهرب هارون فاجتمع عمّاه شيبان وعدىّ ابنا أحمد بن طولون على قتله فقتلاه وهو سكران فى صفر سنة 292ه، وحكم مصر بعده شيبان فى وقت أوشكت فيه الدولة الطولونية على السقوط، وبعد اثنى عشر يوما من حكمه -كما ذكر السيوطى فى «حسن المحاضرة»- أرسل الخليفة المكتفى بولاية ابن سليمان على مصر، إلا أن شيبان حاول صده ومحاربته، فأمّنه ابن سليمان على أهله وماله وولده وإخوته وبنى عمه جميعا -كما ذكر ابن تغرى بردى فى «النجوم الزاهرة»- واضطر شيبان للموافقة والرضوخ للعرض، وذهب بأهله إلى نهايتهم المحتومة، ودخل ابن سليمان مصر بعد أن أحرقت قواته القطائع الطولونية حتى لم يبق إلا الجامع كما ذكر القلقشندى فى «مآثر الأناقة».
ويشير ابن تغرى بردى إلى ما فعله جيش الخليفة بأهل مصر بقوله: «هجموا على دور الناس فنهبوها وأخذوا أموالهم واستباحوا حريمهم، وافتضوا الأبكار، وهرب غالب أهل مصر منها، وفعلوا فى المصريين ما لا يفعلونه فى الكفرة!!».
أما الأربعة أشهر التى قضاها ابن سليمان فى مصر، والتى كانت غما وهما ووبالا على المصريين، فكان ابن سليمان يضرب أعناقهم، ويقطع أيديهم وأرجلهم ظلما وجورا، ويمزق ظهورهم بالسياط، ويصلبهم فى جذوع النخل، إلى أن أراحهم الله بأمر الخليفة له بالحضور إلى بغداد - بعد أن نفذ مهمته بإتقان وأذاق المصريين من أصناف العذاب والهوان- وولى عيسى بن محمد النوشرى حكم مصر بدلا منه، وخرج ابن سليمان من مصر فى رجب سنة 292ه ومعه بقايا جنود الدولة الطولونية، بعدما استولى على أموال الدولة والتى ذكرها ابن تغرى بردى بمليون دينار عينا بالإضافة إلى الذخائر والحلى والفُرُش أربعة وعشرين ألف حِمل جمل، وهذا بخلاف ما أخذه لنفسه والذى جعل الخليفة يأمر باعتقاله ومصادرة أمواله.
وقد ظن ابن سليمان أنه قد كتب الحرف الأخير فى قصة الدولة الطولونية بعدما اقترفت يداه فى مصر، إلا أنه حدث ما لم يتوقعه وقتئذ، فأثناء خروجه من مصر، وعندما اقترب من دمشق ثار عليه جندى مصرى- من بقايا الجيش الطولونى- كان معه وكره مفارقة أرض مصر- كما ذكر المقريزى فى خططه- وانفصل عن جيشه وانضم إليه بعض الجنود، هذا الجندى الذى اختلف فى اسمه بين المؤرخين فعند ابن تغرى بردى ومسكويه «محمد بن على الخلنجى»، والمقريزى وابن أيبك الدوادارى «محمد بن على بن الخليج»، والطبرى وابن خلدون «إبراهيم الخليجى»، ونرجح أنه الخليجى نسبة إلى خليج الفسطاط تلك المدينة التى ولد فيها ونشأ بين ربوعها.
والذى يهمنا هو موقفه الشجاع ووطنيته المخلصة، فقد جال بخاطره ما فعله مبعوث الخليفة بمصر وإذلاله لأهلها واستيلائه على أموالهم ودورهم وهتك أعراضهم بالإضافة إلى قضائه على الدولة الطولونية، فعزم على المقاومة وبث روحها فى نفوس الناس فاقتنعوا بكلامه، واجتمع إليه كثير منهم وخرج إلى الرملة فدخلها فى شعبان سنة 292 ه، وحارب واليها ابن صوارتكين فهزمه وقتل رجاله -كما ذكر ابن تغرى بردى- ومَلك الرملة ودعا على منابرها للخليفة وبعده لإبراهيم بن خمارويه ثم بعدهما لنفسه.
وعندما وصلت أخبار ما حدث من الخليجى إلى أسماع الوالى الجديد عيسى النوشرى أعد عدته وجهز جنوده وأسرع لمقابلته على حدود مصر الشرقية، وتقابل الجيشان بغزة وانتصر الخليجى على جيش النوشرى ولاحقه بالعريش ثم الفرما، ومع كثرة الهزائم التى تعرض لها جيش النوشرى قام بإعداد جيش كبير لمواجهة الخليجى ونزل به العباسة شمال بلبيس، إلا أنه خاف من مواجهته، فهرب من مصر إلى الجيزة إلى أن استقر به المقام بالإسكندرية.
ودخل الثائر محمد الخليجى مصر فى ذى القعدة سنة 292ه بعد تعرضها لحالة من «الانفلات الأمنى» وعلى قول ابن تغرى بردى: «صارت مصر مأكلة للغوغاء يهجمون على البيوت ويأخذون الأموال من غير أن يردهم أحد عن ذلك»، والتف الأهالى حول الخليجى بعد قيامه بالسيطرة على مقاليد الأمور فى البلاد وعيّن الوزير والقاضى وقائد الشرطة وقائد الجند فأعاد لهم أمنهم وحريتهم، واجتمع إليه الناس من كل مكان حتى بلغ عدد جنوده أكثر من خمسين ألفا، ثم إنه استعد للخروج إلى الإسكندرية التى يتحصن بها النوشرى، وتمكن بالفعل من دخولها والسيطرة عليها بعد فرار النوشرى إلى الصعيد.
ولم يقف الخليفة المكتفى مكتوف الأيدى حيال تلك الثورة وهذا الثائر، فأرسل جيشا من العراق بقيادة «أبو الأغر» للقضاء على الثورة، واستعد الخليجى للقتال على جبهتين جنوبية لملاحقة النوشرى بالصعيد، وشمالية بقيادته لقتال جيش الخليفة، والتقى الجيشان وهزم الخليجى جيش الخليفة فى المحرم سنة 293ه هزيمة قاسية، وعاد أبوالأغر بأذيال الخيبة إلى بغداد، فما كان من الخليفة إلا أن أرسل جيشا بريا وآخر بحريا يقود الأول «فاتك المعتضدى» والثانى يقوده «دميانة»، وكانت المعركة الأخيرة التى دارت رحاها فى «النويرة» ببنى سويف فى شهر رجب سنة 293ه هى الفاصلة فى الصراع بين الجانبين، فاستعد الخليجى للمقابلة والفتك بفاتك المعتضدى ليلا، وجهز لذلك أربعة آلاف جندى من أصحابه، ولسوء حظه ضل جنده الطريق، وجاءت الفرصة سانحة لفاتك عندما علم بأمرهم فخرج مسرعا والتقى مع الخليجى قبل وصوله إلى النويرة، وعلى الرغم مما أبداه الخليجى من صبر على القتال إلا أنه انسحب بانخذال أصحابه عنه، فرجع مسرعا إلى الفسطاط.
وفى تلك الأثناء استعد الخليفة المكتفى للمجىء إلى مصر لتأخر قواته فى القضاء على الثورة، فجاءه كتاب فاتك المعتضدى فى شعبان سنة 293ه-كما ذكر ابن الأثير فى «الكامل»- يخبره بالحروب الكثيرة التى دارت رحاها فى مواجهة الخليجى، حتى ألقى القبض عليه بعد اختبائه عند صديق خانه ودلهم على مكانه، فطلب المكتفى بإرساله إلى بغداد التى وصل إليها الخليجى فى شهر رمضان مع أكثر من عشرين رجلا- كما ذكر مسكويه- وأمر الخليفة بتشهيرهم على الجمال، وعندما وقف الخليجى بين يدى الخليفة وبخه توبيخا شديدا على ثورته، ثم قتله شرّ قتلة كما ذكر ابن تغرى بردى.
وبمقتل القائد المصرى الطولونى أسدل الستار على حلقة من حلقات الثورة والمقاومة المصرية والتى استمرت أكثر من سبعة أشهر رفض خلالها الخليجى مفارقة بلاده وحاول بشتى الطرق استمرار بقاء مصر دولة مستقلة، إلا أن الوقت لم يمهله والحظ لم يدركه.