"أهلا وسهلاً بك، لنتحدث بكل سرور" جملة يبادرك بها المفكر والأكاديمي السوري صادق جلال العظم، الرجل الذي هوجم ومُنع، وأٌقصي، لكنه لم يتعلم ممن هاجموه أسلوبهم، أو طريقتهم، ظل يرحب بالنقاش والجدل، يسعد بفكرة هنا، وتحريك لساكن هناك، أقصى طموحه أن يكون سببا في توليد المزيد من الأفكار والرؤى في الوطن العربي . صادق جلال العظم، أستاذ الفلسفة الذي عرف بتأييده لحقوق الإنسان، والمولود في دمشق في عام ،1934 هو مفكر وأستاذ فخري في جامعة دمشق في الفلسفة الأوروبية الحديثة، عمل أستاذاً زائراً في قسم دراسات الشرق الأدنى في جامعة برنستون حتى عام ،2007 يركز العظم في دراساته على العالم الإسلامي والعلاقات المعاصرة بينه وبين البلدان الغربية .
من أعماله "نقد الفكر الديني -1969"، "الاستشراق والاستشراق معكوساً- 1981"، "ما بعد ذهنية التحريم-1992"، "دفاعاً عن المادية والتاريخ"، في "الحب والحب العذري" .
هذه هي المرة الثالثة لك في القاهرة عقب 50 عاما من المنع؟ - نعم، هذه هي المرة الثالثة التي أزور فيها مصر بعد سنوات طويلة من المنع، عقب هزيمة ،1967 حيث كتبت كتابي "النقد الذاتي بعد الهزيم"، ومنع الكتاب تقريبا في كل مكان، ومثلما هي العادة في الوطن العربي، فإن الكتاب الممنوع يوزع على نطاق واسع جدا، وطبعا لأن هناك نقدا للسياسة المصرية، وبعض أركان النظام، منع الكتاب في مصر، ومُنعت أنا من الدخول إلى البلاد .
استمر الأمر في عهدي السادات، ومبارك، لكن حدث مرة أثناء حرب تحرير الكويت سنة ،1990 أن دخلت إلى مؤتمر في القاهرة في فندق مينا هاوس، فكان ردي: إذا سمحوا لي بالدخول إلى القاهرة فسوف أشارك في المؤتمر، حينها تولى الدكتور أسامة الباز المهمة، وسعى لكي أدخل إلى البلاد، وقد قابلت الباز في واشنطن، سألته هل انتهى أمر منعي من دخول البلاد؟ فرد قائلا: حين تود الحضور إلى القاهرة فقط أخبرني قبلها .
علمت من هذا الرد أن الموضوع لم ينته، وفي كل مرة يجب أن أسأل أولا، لكن هذا كله انتهى بعد الثورة، جئنا من نحو عشرة شهور، ودخلنا أنا وزوجتي وخرجنا بشكل طبيعي، وهذه هي المرة الثانية بعد الثورة، والثالثة منذ منع عبد الناصر، جئت لأجل الاجتماع الأول لرابطة الكتاب السوريين .
ما شعورك حيال عبد الناصر الآن وأنت تدخل أرضا منعت منها؟ - بدأ اهتمامي بالشأن العام والسياسي حين كنت طالبا في السنة الثانية في الجامعة الأمريكية في بيروت في عام ،1956 خلال العدوان الثلاثي على مصر، وتأميم القناة، وحرب السويس، تلك لحظة مفصلية في حياتي، كنت طالبا وتكون وعيي السياسي والاجتماعي مع تلك الحوادث أما الحادث الثاني الذي شعرنا فيه بالانهيار فكان مع هزيمة ،1967 شخصية الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بالنسبة إلي مختلطة فيها إنجازات كبيرة ومهمة، وفي الوقت نفسه، تركنا بتراث هزيمة مازلنا ندفع فواتيرها حتى الآن .
لست غاضباً من عبد الناصر، بصورة شخصية، لكننا في الوطن العربي اعتدنا على ثقافة المنع، المنع لم يكن في مصر فقط، فقد كنت ممنوعا من أماكن أخرى بسبب كتاباتي ومؤلفاتي حتى في بلدي سوريا تعرضت لمضايقات، ومنع معي كثير من الكتاب والمثقفين والفنانين، المسألة عامة وشبه مؤسسة، مؤسسة الرقابة متشابهة، تجعل من الصعب عليك أن تحقد أو تنزعج من أحدهم على أساس شخصي، لأن المنع سلوك مؤسسي في الوطن العربي، وفي ثقافتنا أشياء كثيرة -مع الأسف- تؤدي إلى التسلط، والسلطوية، والمناخ الأبوي الموجود في ثقافتنا العربية يجعلني أتفهم ما يفعلون، وإن كنت ضده .
هل فكرت ولو للحظة أن تراجع نفسك فيما كتبت عن نقد الفكر كنوع من وضع نفسك مكان الآخر؟ - لم أضع نفسي مكان الآخر، لكن ما فعلته أنني راجعت نفسي بالنسبة للمستجدات التي طرأت على الحياة العربية والثقافية والفكرية خاصة بعد هزيمة ،1967 في تصوري أن هذا الموضوع وأنا مازلت أعتقد بأنه في الوطن العربي، من المشكلات الكبرى التي لن تحدث نهضة أو تقدم من دونها هو غياب أي شيء له علاقة بالعلم الحديث، لم يحدث في العالم العربي والإسلامي ربما من خمسمئة سنة أن أنتجوا معرفة لها علاقة بالمادة أو الإنسان أو العالم أو الطبيعة أو المجتمع، إننا نستورد كل معارفنا من الخارج، معلبة، ومكررة، مجرد اجترار .
كتابي يركز على مشكلة العمل من جهة، ومشكلة التصورات المسبقة ومدى تصادمها مع بعضها، نحن نعاني غياب ثورة علمية في عالمنا العربية، لا نرى تغييراً في المناهج، أو فهماً آخر للعلوم، ومناهج التربية والعلوم والتعليم، ومناهج الإنتاج، نحن لا ننتج شيئاً .
هل دخلنا مرحلة الخريف العربي؟ - لم نزل بعد في بداية الربيع العربي، الربيع بالنسبة إلي هو عودة السياسة للناس وعودة الناس إلى السياسة بعد عهود من المصادرة للعمل والقرار السياسي من قلب نخب عسكرية وبيزنسية، لنرى ما سيحدث بعد عودة السياسة للناس، هذه الصيرورة من الصعب الحكم عليها من الآن، ثمة رواية لإميل حبيبي، اخترع فيها مصطلحاً جديدًا وهو »متشائل«، لذا أنا متشائل عربي ينتظر ربيعاً، طال انتظاره، إننا في انتظار ربيعنا .
تعيش حياة العقل والعقلانية والتعقل . . ماذا عن الروحانيات هل تتعارض الروحانية مع العقل؟ - الروحانيات لا تعني الغيبيات والأساطير بالضرورة، الحياة الروحية لها علاقة بالعواطف، الثقافة، العقل، مثلي مثل أي إنسان آخر أعيش هذه الأمور الروحانية بهذا المعنى للروح .
هل تلمس أي بوادر لحداثة عربية؟ - مازلنا في مرحلة "هاملت" مازال التأرجح قائما بين الماضي والحاضر، الثورات العربية لها حسنات لا تنكر، فقد أعادت السياسة للناس والناس للسياسة، وقضت على مبدأ التوريث، في مصر كانت هذه مشكلة كبرى، وكذلك الأمر في اليمن قضت عليها نهائيا، وحل محله الربيع العربي، تداول السلطة انتخابيا، وديموقراطيا، لذا أنا لست يائسا كليا من ظهور حداثة عربية، لكنني بالطبع حذر ومتخوف وأقدّر ما قدمه الربيع العربي .