إدوارد سعيد دور ثقافي عظيم وسط الصف الأول من مفكري العالم الحديث, واسمه مشهور مألوف علي أنه مؤلف كتاب الاستشراق وأنه من أبرز دارسي ثقافات وآداب ما بعد الاستعمار, وكذلك استيعابه لدور المثقف في المجتمع المعاصر ولوظيفة النقد الأدبي والثقافي. وقد لا ينتبه كثيرون إلي أن كتابه العالم والنص والناقد-1983- يقدم العدسة التي من خلالها يمكن أن نصل إلي أهمية إدوارد سعيد في النظرية الثقافية المعاصرة. ففي الكتاب إنضاج نسقي لاهتماماته الواسعة وجوانبها المتعددة, ويبدو سعيد أكثر انكبابا علي السياقات الدنيوية اجتماعية وسياسية ويذكرنا برأي فيكو الفيلسوف الإيطالي(1668-1744) القائل بأن التاريخ الإنساني يصنعه البشر, كما يستخدم سعيد مفهوم ميشيل فوكو عن الخطاب. وقد لقي كتاب الاستشراق(1978) قدرا كبيرا من الاهتمام كان معظمه إيجابيا وحماسيا. ولكن بعض الاهتمام أساء الفهم وظن أن الكتاب يزعم أن ظاهرة الاستشراق رمز مصغر للغرب بأكمله المعادي للشعوب غير الأوروبية وقفز إلي توهم أن إدوارد سعيد مؤيد إلي حد ما لشيء متخيل قد يكون الشرق الحقيقي وما فيه من صحيح الإسلام ينهضان نتيجة لهجوم إدوارد سعيد علي تمثلات الشرق في خطاب الاستشراق المتزامن مع الامبراطوريتين البريطانية والفرنسية واستعمار الشرق الأوسط وكان جزءا من عملية السيطرة والقهر. فهذا الخطاب الاستشراقي رسم أنماطا تختزل الواقع والأفكار في شكل تبسيطي خداع زائف. إنه يصور الإسلام كتجسيد للشرق محمل بالتهديد والأخطار. ويرفض إدوارد سعيد القول إن الغرب غرب والشرق شرق وأنهما متعاديان كهويتين متحاربتين دوما. ولا يذهب كتاب الاستشراق إلي أن الاستشراق شرير أو ملوث, ولم ينكر إنجازات بعض المستشرقين أو إسهامهم في المعرفة الإنسانية. فالاستشراق عنده ليس متماثلا في أعمال كل مستشرق, ولكن إدوارد سعيد يحصر القول الانتقادي في النقابة الطائفية للمستشرقين وتاريخها الخاص في التواطؤ مع السلطة الإمبريالية وكانت تمثلات الشرق في خطابها جزءا من عملية السيطرة عليه. وبالإضافة إلي موضوع الموقف النضالي من الاستعمار كان وجوده كفلسطيني خارج المكان في المنفي موضوعا أساسيا في مشروعه الفكري. ويذكر في تأملاته عن المنفي أن المنفي رهيب. إنه تلك الهوة التي يعيش فيها الإنسان, بين ذاته وموطنها الحقيقي رغم ما يتحقق في المنفي من إنجاز وامتياز, لأن إحساسا بضياع ما تركه وراءه في فلسطين لا أمل في استرداده. فالشعور بالنفي والغربة يجتاحه طول حياته رغم ما حققه من امتياز الإنجاز. وابتداء من رسالته للدكتوراه بجامعة هارفارد حيث تناول بالدراسة الكاتب البريطاني البولندي الأصل جوزيف كونراد لما يشعر به من علاقة تماثل نفسي تجمعه به هي علاقة الغربة. فكونراد مثل سعيد كاتب مرموق في لغة مكتسبة عاني من إحساس بالغربة. إنهما فقدا الوطن واللغة دون إمكان للعودة. ولكن سعيد رغم نجاحه في الكتابة والنضال من أجل القضية الفلسطينية ومكافحة الإمبريالية لم يعبأ بتوحيد حياته النبعثرة في كتابة توحدها. وإن يكن في كتابه خارج المكان(1999) ضم شتات حياته في البلاد العربية, عالمه الذي ضاع فسجل سيرة ذاتيه لحياته الأولي فيه ثم في الولاياتالمتحدة وشعوره بالغربة. إن وجوده خارج المكان محور هيمن دائما علي حياته بين القدس أرض ميلاده, وبين القاهرة ولبنان وتعليمه كأبناء الصفوة الأغنياء في مدارس إنجليزية وأمريكية منذ فجر طفولته. وحتي اسمه الثنائي الجنسية: إدوارد الانجليزي وسعيد العربي يزعزع شعوره بالانتماء إلي اللغة التي يتكلمها. فهل لغته الأصلية العربية أو الانجليزية, وإلي أي وطن ينتمي؟ فهو مولود في القدس ووالده رجل أعمال غني أمريكي الجنسية من أصل فلسطيني قضي عشر سنوات في الولاياتالمتحدة جند أثناءها في الحرب العالمية الأولي, ووالدته من أب فلسطيني وأم لبنانية من أسرة أرستقراطية تعلمت في بيروت في مدارس أمريكية. إن إدوارد سعيد غارق منذ المهد في مشاعر الغربة المتناقضة ابتداء من الاسم مزدوج الجنسية. وفي مدرسة فيكتويا بمصر يلتقي سعيد بعينة نموذجية للاستعمار البريطاني كان يبغضها ويقاومها ويتمرد عليها تمرد الصبيان متخيلا أنه مقاومة للاستعمار البريطاني في مصر. وقد تعلم إدوارد سعيد الفرنسية مثل كل أبناء الأرستقراطية, وعاني من مشكلة اللغة في سن الرابعة عشرة: العربية ممنوعة والفرنسية مستعملة ولكنها ليست لغته والانجليزية مشروعة ولكنها لغة الاستعمار البغيضة. وفي عام1951 وهو في السادسة عشرة يرحل إلي الولاياتالمتحدة متنقلا من مدرسة داخلية إلي كلية برنستون إلي جامعة هارفارد, والإحساس بالغربة جاثم علي أنفاسه. فلم يكن يتحرر من ثقل الغربة إلا في القدس وحدها موطن مولده ومتنفس إجازاته الصيفية وشعوره بوجوده داخل المكان المختار: ذكريات الصبا واجتماع شمل العائلة والكلام بالعربية ومعني الوطن. وذلك الانتماء المطمئن كان قبل النكبة في1948 وتفرق العائلة أفرادا في بلاد متعددة ومعاناة الغربة من وطن ضاع دونما رجوع منظور, ولا سبيل إلي العودة. وازداد جرح الوضع بعد حرب1967 التي هزمت فيها إسرائيل جيوش العرب واحتلت الضفة الغربية وغزة ومرتفعات الجولان وشبه جزيرة سيناء واقتلعت في رأي سعيد أي أثر للا سياسة أو الحياد الأكاديمي. ولم يعد إدواد سعيد الشخص الذي كانه بل صار فلسطينيا منفيا في الولاياتالمتحدة. ومن هنا انبثق مفهوم الموضوع المركزي لكتاب الاستشراق نلمح بذوره في كتاب تصوير العربي المكتوب عام1968 وفيه هاجم سعيد الطريقة التي يصور بها العرب في وسائل الإعلام إما كشيوخ أثرياء فاسدين أو كإرهابيين. وهنا نجد اهتمام سعيد لأول مرة بالتعبير عن سياسات التمثيل الثقافي. إن فلسطين تصور من جانب الصهاينة كصحراء جرداء تنتظر التعمير, سكانها بدو رحل لا يملكون حقا ثابتا في الأرض ولا استمرارا حضاريا. ويأتي كتاب بدايات نتاجا لهزيمة1967 واستجابة لصدمتها عند أستاذ الأدب المقارن. إنه يضع يقظته السياسية في مصطلحات أدبية; كيف تكون بداية الإمساك بالعلاقة بين الماضي وملابسات ومتطلبات الحاضر. ويمثل بدايات منهجا في تناول العمل الأدبي وضرورة الكشف عن كل سياقاته الاجتماعية والسياسية( علاقاته المادية الدنيوية) بدلا من اعتباره روحا مرفرفة من برج عاجي, ويرفض اعتبار الفلسطينيين غرباء في بلدهم. ويتعامل الكتاب مع مشاكل النفوذ والسلطة والقوة بلغة المجادلات الأدبية حول اللغة والسرد. أما الاستشراق فيناقش مسائل السلطة والمعرفة صراحة. وفي1979 نشر سعيد كتابه مسألة فلسطين مبتعدا عن التخصص الأدبي الضيق ومتوغلا في بحث سياسي ثقافي يدرس سلب الفلسطينيين دارهم وينفذ إلي الممارسات الوحشية لمختلف أشكال الاستعمار التي عاني منها الفلسطينيون. وقد رفض الناشرون الأمريكيون إصدار الكتاب, كما أن بعض الفلسطينيين والعرب اختلفوا مع تأييد سعيد المؤقت لحل الدولتين, ولم يصدر هذا الكتاب بالعربية زمنا طويلا, علي الرغم من أن سعيد هو الذي وضع محنة الفلسطينين ببراعة شديدة تحت نظر الجمهور العالمي أكثر من أي كاتب آخر لأنه ناقد ومنظر ثقافي عظيم الأهمية. إن تنوع إبداعات سعيد وعمقها وغزارتها في الأدب الانجليزي وأساليب النصوص الأدبية وعن وظائف المثقفين في المجتمع وحتي عن الموسيقي تتلقي ظلالا دائمة من وعيه بوضعه كمثقف فلسطيني منفي في بيئة معادية للعرب وأفكارهم وأممهم وتحيطه بتأييد شامل للإسرائيليين وتجعله هدفا للعداء. و ينعكس وعيه بهذه التجربة في كل موضع من كتاباته.