هذان السؤالان هما من أسئلة طفولتى المتكررة فى الصفوف الابتدائية فى القاهرة حيث كنت أقيم أثناء العام الدراسى، فإذا وصلت إلى بودابست، عاصمة المجر حيث منفى والدى وملتقى أسرتنا الصغيرة الصيفى، وحيث كنت أحضر بعض المدارس الصيفية أو المعسكرات الرياضية، كان الفتية والفتيات يسألوننى:
أكلكم فى بلادكم سود العيون؟
أكثرنا
عجيب، ممن أنت؟
من العرب
فأنت من العراق أم من إيران؟ (كانت العراق وإيران تردان فى الأخبار كثيرا فى الثمانينيات لأجل الحرب الدائرة بينهما فلذا كان البلدان أول ما يخطر ببال غير المطلعين من الأوروبيين لدى ذكر العرب)، وكنت أجد عبثا أن أشرح للشباب المجريين الفرق بين إيران والعراق، والعروبة والإسلام، وحتى حين أشرح، كان الفلسطينى المصرى يبقى بالنسبة لهم عراقيا إيرانيا أسود العينين مسلما... أيا كان دينه.
مرة، فى سن السابعة أو أقل، زرت مع زملائى المجريين من تلاميذ المدرسة الصيفية، مقاما لولى وشاعر عثمانى دفن فى بودابست فى حى يدعى تلة الزهور، فقد كان العثمانيون حكموا المجر مائة وخمسين سنة تقريبا، وفى المقام نقوش لآيات من القرآن، رحت أقرؤها بصوت عال، وحولى زملاء المدرسة الصيفية من الأطفال المجريين، ربما كنت وقتها فى الثامنة، وأذكر أن الآية المنقوشة كانت سورة الناس أو سورة الفلق، فطلبت منى المشرفة والتلاميذ، بعد أن فهموا أننى أقرأ نصا منقوشا ولا أكلم الحائط، أن أترجمه لهم، وكيف لطفل فى السابعة، مهما كانت طلاقته فى المجرية، أن يترجم إليها «ومن شر غاسق إذا وقب»، فأخبرتهم أننى لا أستطيع الترجمة، وأجتهدت من عندى فتوى بنت وقتها، أن سوء الترجمة نوع من التحريف وأنه يحرم لذلك، فصدقنى التلاميذ والمشرفة ونجوت، ولكن آليت ألا أحفظ نصا حتى أفهم معناه.
●●●
وحين كانت أمهات الناس يقرأن لهم عن الكتاكيت كانت والدتى، والأمر لله من قبل ومن بعد، تقرأ لى قصصا من أدب الأفارقة الذين أخذهم الأمريكيون من ذويهم ليعملوا عبيدا فى حقولهم، وتعلمنى كلمات الأغانى التى كانوا يؤلفونها فى حقول القطن فى الجنوب الأمريكى، فحين تقاتلت مع ولد قصير القامة أشبه شىء بالسمكة بعد تمليحها وتجفيفها، وأظننى كنت فى سن السادسة، فى معسكر رياضى فى بعض جبال الريف المجرى، أراد أن يسبنى، فقال لى «نيغر فاج» أى «أنت أسود» وأصلها لاتينى، وهى فى المجرية بنفس معناها فى الإنجليزية، ولكننى لم أفهم أنه أراد المسبة، ورحت أقص على الأطفال قصة السود المختطفين كما سمعتها من الوالدة، فحاول أن يضربنى لما رأى أن المسبة لم تنفع، ولكننى كنت أطول منه فغلبته بسهولة، وحين تدخلت المشرفة رحت اكمل قصص العبيد أقول إننى غضبت لهم من الولد المجفف، وإنما غضبت لنفسى. ولحسن الحظ، كانت شيوعية (المجر كانت ما تزال بلدا شيوعيا، ولم يكن نادرا أن ترى مشرفى الكشافة ومعسكرات الرياضة يساريين) فأنصفتنى عليه.
فى بوسطن، بالولايات المتحدة، حيث ذهبت لتحصيل شهادة الدكتوراة عام ألفين وواحد، تفاقم الأمر، فقد كان واضحا للعيان، أن ثمة حزبا للمظلومين فى هذا العالم، يتكلم عنهم اليمين الأمريكى الحاكم حينئذ بجهل وعنصرية، لا يختلفان عن جهل ذلك الولد المجفف وعنصريته، وجعلت همى البحث فى النظرية السياسية عن الهوية الجامعة لهؤلاء المظلومين. لم يرضنى اختزال غناهم الإنسانى وحصرهم فى حاجاتهم المادية، ولا اعتبار ثقافاتهم وأديانهم بالضرورة خطابا يغطى على استغلال قويهم لضعيفهم فى كل حالة، فلم أصبح ماركسيا كلاسيكيا، وإن استفدت من المنهجية التاريخية كثيرا، ولكن رحت أبحث عن مفهوم للأمة حتى كتبت فيه كتابا. ولن أطيل هنا بحثا فى النظريات السياسية، ولا فى أصل المصطلح، ولكن أحب مشاركتكم فى المعنى العربى للكلمة.
●●●
الأمة من أم، أى قصد، فكأنك تقول إن قصد جمع من الناس أمرا وأمُّوه أَمَّا فهم أمة، لوحدة الجهة التى يقصدونها، ولكن فعل الأم من الاضداد، فأن تقول أممت فلانا قد يعنى أنك قدته وكنت إمامه، أو أنك قصدته وتبعته وجعلته وجهتك، كقولك أممت البيت، أى اتجهت إليه.
فالأمة جماعة تابعة لإمام، والأمة جماعة متبوعة يتبعها أفرادها. والإمام فى اللغة يكون رجلا أو كتابا أو مثالا كائنا ما كان، بل إن الموازين والمقاييس التى يستخدمها البناؤون لمعرفة استواء البناء، تسمى فى اللغة إماما. ولذلك فإن كل جماعة من الناس تبعت مثالا، فكرة، صورة، عقيدة، فهى أمة. ومجموعة من الأفراد، إذا فكروا فى أنفسهم على أنهم كيان واحد، لهم مقصد واحد، وراحوا يعددون صفات هذا الكيان، ثم عملوا على تحقيق هذه الصورة المتخيلة عن أنفسهم لتصبح واقعا، يصبحون أمة. الأمة إذن تتبع نفسها، تتبع صورتها فى خيال أفرادها، فنفر من الناس متفرقون فى الصحارى، يعتقدون فى أنفسهم أنهم قبائل، إذا قرروا أن يعتقدوا فى أنفسهم أنهم عرب، أو مسلمون، أو هنود وعملوا على ذلك فهم أمة. بل إن رجلا واحدا، إذا تخيل صورة عن نفسه، كأن يؤمن بأنه صار نبيا مثلا، ثم عمل على هذا الأساس فقد أصبح إمام نفسه، وأمة نفسه.
يعلم الناس قولى الذى لا أمل من تكراره أن الحاكم لا يكون إلا فى خيال المحكوم، وأزيد، إن الأمة نفسها لا تكون إلا فى خيال أفرادها أولا، ثم تصبح واقعا إذا عملوا بمقتضى هذا الخيال.
وعند العرب الرحل، كانت اللغة وعاء الخيال الأهم، فلا هم قادرون على بناء التماثيل ولا التصوير على الجدران وأكثرهم أهل خيم، أما اللغة فأخف التماثيل، وأهون المعابد حملا، فكانوا يفصِّلون صورتهم عن أنفسهم فى أشعارهم، وكان الوجود السياسى للقبيلة يخلق فى أشعارها، نص يحفظه أفرادها، ويحمل صورة عنهم، ومثالا لهم، ومقياسا أخلاقيا مقترحا عليهم ليقيسوا عليه أعمالهم، فالشجاع منهم هو ما طابقت شجاعته على الأرض تلك الشجاعة التى يصفها شاعر قبيلته وينسبها لأجداده، وكذلك الكريم. فكان الشعر خيالا مكونا للهوية السياسية القبلية، ومحددا من محددات السلوك الاجتماعى، ورابطا يجمع أناسا يتخيلون أنهم قبيلة فيصيرون قبيلة. ولذلك لم يكن من قبيل المصادفة، أن يكون الجذر اللغوى المشتقة منه كلمة الأمة، وهو فعل الأم، مرادفا للجذر اللغوى المشتق منه اسم النص الشعري: القصيدة، وأصلها فعل القصد. بل إن صيغة فعيل، تعنى الفاعل أو المفعول أو كليهما، فكأن القصيدة قاصدة مقصودة، آمة مأمومة، تابعة متبوعة، لأنها تتبع نفسها، كالأمة.
وكأن الأمة هى القصيدة، والقصيدة هى الأمة. وحين حل النص الدينى محل النص البشرى، صارت الأمة هى الكتاب، والكتاب فى اللغة يقال له الإمام ايضا، والإمام فى لسان العرب قد يسمى الأمة.
●●●
وجدت لذلك أننى أتبع أمة من المظلومين، قصيدة أبياتها ناس، إذا كتبت شعرا قرأتهم وإذا قرأتهم كتبت، أتبع نفسى الجماعية، كيانا خياليا واقعيا، فيه العراقى والإيرانى والفلسطينى والمصرى والأسود المضطهد وغيرهم، وما زلت إلى اليوم أرى كل ما يفرق بينهم عصبية جاهلية، فلا أطيق من يفرق بين المصرى والفلسطينى، أو السنى والشيعى، والمسلم والقبطى، إنما خط الهوية عندى هو خط المظلومية، وأنا مع المظلوم. وإذا احترت بين ظالمَين، كمستبد ومستعمر، فأنا ضد كليهما، فإن اضطررت للخيار بينهما فأنا ضد أكبرهما ظلما وأوسعهما عدوانا وأكثرهما بأسا، وهو، فى زماننا بلا شك، الاستعمار، كحكومات أمريكا وإسرائيل فى زماننا هذا ومن أعانهما أو استعان بهما مهما كانت حجته أو ذريعته، والله من وراء القصد/ الأمة.